السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ فَإِذَا ٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِبَعۡضِ شَأۡنِهِمۡ فَأۡذَن لِّمَن شِئۡتَ مِنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمُ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (62)

ولما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان قال تعالى : { إنما المؤمنون } أي : الكاملون في الإيمان { الذين آمنوا بالله } أي : الملك الأعلى { ورسوله } أي : ظاهراً وباطناً { وإذا كانوا معه } أي : الرسول صلى الله عليه وسلم { على أمر جامع } أي : يجمعهم من حرب حضرت أو صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو تشاور في أمر نزل ، ووصف الأمر بالجمع للمبالغة أو من الإسناد المجازي ؛ لأنه لما كان سبباً في جمعهم نسب الفعل إليه مجازاً { لم يذهبوا } أي : يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعذر لهم { حتى يستأذنوه } قال الكلبي : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض في خطبته بالمنافقين ، ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا ، وإن أبصرهم أحد لبثوا وصلوا خوفاً ، فنزلت هذه الآية ، فكان المؤمن بعد نزولها لا يخرج لحاجة حتى يستأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يخرجون بغير إذن ، قال مجاهد : إن إذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده قال أهل العلم : كذلك كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن ، وهذا إذا لم يكن سبب يمنعه من المقام ، فإن حدث سبب يمنعه عن المقام كأن يكونوا في المسجد فتحيض منهم امرأة أو يجنب الرجل أو يعرض له مرض فلا يحتاج إلى الاستئذان ، ولما كان اعتبار الإذن كالمصدق لصحة كمال الإيمان ، والمميز للمخلص فيه أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ بقوله تعالى : { إن الذين يستأذنونك } أي : تعظيماً لك ورعاية للأدب { أولئك } أي : العالو الرتبة { الذين يؤمنون بالله } أي : الذي له الأمر كله { ورسوله } فإنه يفيد أن المستأذن مؤمن لا محالة وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك ، ولما نص على الاستئذان تسبب عن ذلك إعلامه صلى الله عليه وسلم بما يفعل إذ ذاك بقوله تعالى : { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } وهو ما تشتد الحاجة إليه ، { فأذن لمن شئت منهم } بالانصراف أي : إن شئت فأذن ، وإن شئت فلا تأذن ، ففي ذلك تفويض الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوّض إلى رأيه .

قال الضحاك ومقاتل : المراد عمر بن الخطاب وذلك «أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله ، فأذن له وقال : " انطلق فوالله ما أنت بمنافق " يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام ، فلما سمعوا ذلك قالوا : ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى ، فوالله ما نراه يعدل » ، قال ابن عباس : «إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال : يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك » ، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور ؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى : { واستغفر لهم الله } أي : الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره ، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى : { إن الله } أي : الذي لا يخفى عليه شيء { غفور } أي : لفرطات العباد { رحيم } أي : بالتستر عليهم .