التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ فَإِذَا ٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِبَعۡضِ شَأۡنِهِمۡ فَأۡذَن لِّمَن شِئۡتَ مِنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمُ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (62)

وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من أحكام وآداب منها ما يتعلق بالحدود ، ومنها ما يتعلق بالاستئذان ، ومنها ما يتعلق بالتستر والاحتشام ، ومنها ما يتعلق بتنظيم العلاقات بين الأقارب والأصدقاء . . . بعد كل ذلك اختتمت ببيان ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أدب مع رسولهم صلى الله عليهم وسلم فقال - تعالى - : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ . . . } .

روى ابن إسحاق فى سبب نزول هذه الآيات ما ملخصه : أنه لما كان تجمع قريش وغطفان فى غزوة الأحزاب ، ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم خندقا حول المدينة وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودابوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من النمافقين ، وجعلوا يُوَرُّون - أى يستترون - بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهمى بغير علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إذن . وجعل الرجل من المسلمين إذا ناتبه النائبة من الحاجة التى لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذن فى اللحوق لحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته ، رجع إلى ما كان فيه من العمل رغبة فى الخير واحتسابا له . فأنزل الله هذه الآيات فى المؤمنين وفى المنافقين .

والمراد بالأمر الجامع فى قوله : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } : الأمر الهام الذى يستلزم اشتراك الجماعة فى شأنه ، كالجهاد فى سبيل الله ، وكالإعداد لعمل من الأعمال العامة التى تهم المسلمين جميعا .

والمعنى : إن من شأن المؤمنين الصادقين ، الذين آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان أنهم إذا كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر جامع من الأمور التى تقتضى اشتراكهم فيه ، لم يفارقوه ولم يذهبوا عنه ، حتى يستأذنوه فى المفارقة أو فى الذهاب ، لأن هذا الاستئذان دليل على قوة الإيمان ، وعلى حسن أدبهم مع نبيهم صلى الله عليه وسلم .

قال الآلوسى : وقوله : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ . . . } معطوف على { آمَنُواْ } داخل معه فى حيز الصلة ، والحصر باعتبار الكمال . أى : إنما الكاملون فى الإيمان الذين آمنوا بالله - تعالى - ، وبرسوله صلى الله عليه وسلم من صميم قلوبهم ، وأطاعوا فى جميع الأحكام التى من جملتها ما فصل من قبل . وإذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر مهم يجب اجتماعهم فى شأنه كالجمعة والأعياد والحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع . . . لم يذهبوا عنه صلى الله عليه وسلم { حتى يَسْتَأْذِنُوهُ } فى الذهاب فيأذن لهم . . .

وخص - سبحانه - الأمر الجامع بالذكر ، للإشعار بأهميته ووجوب البقاء معه صلى الله عليه وسلم حتى يعطيهم الإذن بالانصراف ، إذ وجودهم معه يؤدى إلى مظاهرته صلى الله عليه وسلم ومعاونته فى الوصول إلى أفضل الحلول لهذا الأمر الهام .

ثم مدح - سبحانه - الذين لا يغادرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا معه على أمر جامع حتى يستأذنوه فقال : { إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } .

أى : إن الذين يستأذنونك فى تلك الأحوال الهامة ، والتى تستلزم وجودهم معك ، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله حق الإيمان ، لأن هذا الاستئذان فى تلك الأوقات دليل على طهارة نفوسهم ، وصدق يقينهم ، وصفاء قلوبهم .

ثم بين - سبحانه - وظيفته - صلى الله عليه وسلم فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

أى : فإذا استأذنك هؤلاء المؤمنون فى الانصراف ، لقضاء بعض الأمور والشئون التى هم فى حاجة إليها ، فأنت مفوض ومخير فى إعطاء الإذن لبعضهم وفى منعه عن البعض الآخر ، إذ الأمر فى هذه المسألة متروك لتقديرك - أيها الرسول الكريم - .

وقوله - تعالى - { واستغفر لَهُمُ } فيه إشارة إلى أنه كان الأولى بهؤلاء المؤمنين ، أن يبقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينتهوا من حل هذا الأمر الجامع الذى اجتمعوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله ، وحتى يأذن لهم صلى الله عليه وسلم فى الانصراف دون أن يطلبوا منه ذلك ، فإن الاستئذان قبل البت فى الأمر الهام الذى يتعلق بمصالح المسلمين جميعا ، غير مناسب للمؤمنين الصادقين ، ويجب أن يكون فى أضيق الحدود ، وأشد الظروف ، ومع كل ذلك ، فالله - تعالى - واسع المغفرة لعباده عظيم الرحمة بهم .