فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ فَإِذَا ٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِبَعۡضِ شَأۡنِهِمۡ فَأۡذَن لِّمَن شِئۡتَ مِنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمُ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (62)

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 62 ) لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 63 ) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 64 ) } .

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدمها من الأحكام ، وإنما من صيغ الحصر ، والمعنى لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يؤمن بالله ورسوله { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ } أي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صلة ثانية ومحط الكمال { عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } أي طاعة يجتمعون عليها نحو الجمعة والجماعة والنحر والفطر والجهاد أو تشاور في أمر وأشباه ذلك .

وسمى الأمر جامعا مبالغة ، وفيه إسناد مجازي لأن الأمر لما كان سببا في جمعهم نسب الجمع إليه مجازا ، وقرئ على أمر جميع والحاصل أن الأمر الجامع والجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب .

{ لَمْ يَذْهَبُوا } أي يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعروض عذر لهم { حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } واعتبار هذا في كمال إيمانهم لأنه كالمصداق لصحته والمميز المخلص فيه عن المنافق ، فإن ديدنه وعادته التسلل والفرار ، ولتعظم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه .

قال المفسرون : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو لعذر لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يراه فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن يشاء منهم قال مجاهد : وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده ، قال الزجاج : أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيهم فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه في جمع من جموعهم إلا بإذنه ، وللإمام أن يأذن على ما يرى لقوله فأذن لمن شئت منهم قال العلماء : كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه إلا بإذن .

ثم قال سبحانه مؤكدا على أسلوب أبلغ ومعظما لهذا الأمر .

{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } فبين سبحانه أن المستأذنين هم المؤمنون بالله ورسوله ، كما حكم أولا بأن المؤمنين الكاملي الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك .

{ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أي لأجل بعض الأمور التي يهمهم كما وقع لسيدنا عمر حين خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله فإذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : ارجع فلست بمنافق { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } فإنه يأذن لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه رفع شأنه صلى الله عليه وسلم .

واستدل به على أن بعض الأحكام مفوض إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه ، أي فأذن لمن علمت أن له عذرا ، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم فقال :

{ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ } بعد الإذن فيه إشارة إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر مسوغ فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة ، لأن اغتنام مجالسه أولى من الاستئذان { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي كثير المغفرة لفرطات العباد والرحمة بالتيسير عليهم ، بالغ فيهما إلى الغاية التي ليس وراءها غاية .