إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُۥ عَلَىٰٓ أَمۡرٖ جَامِعٖ لَّمۡ يَذۡهَبُواْ حَتَّىٰ يَسۡتَـٔۡذِنُوهُۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَـٔۡذِنُونَكَ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ فَإِذَا ٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِبَعۡضِ شَأۡنِهِمۡ فَأۡذَن لِّمَن شِئۡتَ مِنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمُ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (62)

{ إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } استئنافٌ جيء به في أواخر الأحكام السَّابقةِ تقريراً لها وتأكيداً لوجوب مراعاتِها وتكميلاً لها ببيانِ بعضٍ آخرَ من جنسها وإنَّما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيِّز الصِّلةِ للموصولِ الواقع خبراً للمبتدأ مع تضمُّنِه له قطعاً تغيراً لما قبله وتمهيداً لما بعده وإيذاناً بأنه حفيفٌ بأن يجعل قريناً للإيمان بهما مُنتظماً في سلكه فقوله تعالى : { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } معطوفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيِّز الصِّلةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمانِ الذين آمنُوا بالله ورسولِه عن صميم قلوبهم وأطاعوهُما في جميع الأحكامِ التي من جُملتها ما فُصِّل من قبل من الأحكامِ المتعلِّقةِ بعامة أحوالِهم المطَّردة في الوقوع وأحوالِهم الواقعة بحسب الاتِّفاقِ كما إذا كانُوا معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أمر مهمَ يجب اجتماعُهم في شأنه كالجمعةِ والأعيادِ والحروبِ وغيرِها من الأمور الدَّاعيةِ إلى اجتماع أولي الآراءِ والتَّجارِب ، ووصف الأمر بالجمعِ للمبالغة وقرئ أمرٍ جميعٍ { لَّمْ يَذْهَبُواْ } أي من المجمعِ مع كون ذلك الأمرِ مما لا يوجبُ حضورَهم لا محالةَ كما عند إقامة الجمعةِ ولقاء العدوِّ بل يسوِّغ التَّخلفَ عنه { حتى يستأذنوه } عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الذهابِ لا على أنَّ نفسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدم الذَّهاب بل الغاية هي الإذنُ المنوط برأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، والاقتصار على ذكرِه لأنَّه الذي يتمُّ من قبلهم وهو المعتبرُ في كمال الإيمانِ لا الإذنُ ولا الذهابُ المترتِّبُ عليه ، واعتبارُه في ذلك لِما أنَّه كالمصداقِ لصحَّتِه والمميِّز للمخلصِ فيه عن المنافق فإنَّ ديدنه التَّسللُ للفرار ولتعظيم ما في الذهابِ بغير إذنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الجنايةِ وللتَّنبيهِ على ذلك عقب بقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ } فقَضَى بأنَّ المستأذنينَ هم المؤمنون بالله ورسولِه كما حكم في الأول بأنَّ الكاملينَ في الإيمان هم الجامعونَ بين الإيمانِ بهما وبين الاستئذانِ وفي أولئك من تفخيم شأنِ المستأذنينَ ما لا يخفى { فَإِذَا استأذنوك } بيانٌ لما هو وظيفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في هذا البابِ إثرَ بيانِ ما هو وظيفةُ المؤمنينَ وأن الإذن عند الاستئذانِ ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ { فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ { واستغفر لَهُمُ الله } فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ { إنَّ الله غَفُورٌ } مبالغ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ { رَّحِيمٌ } مبالغ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم . والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم .