قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . فالرفث كناية عن الجماع ، قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة ، والملامسة والإفضاء والدخول والرفث . فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء ، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع ، إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها ، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ، ثم " إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، هذه الخطيئة ، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيب ، فسولت لي نفسي فجامعت أهلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت جديراً بذلك يا عمر " فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه . ( أحل لكم ليلة الصيام ) أي أبيح لكم ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم ) .
قوله تعالى : { هن لباس لكم ) أي سكن لكم .
قوله تعالى : { وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن ، دليله قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) وقيل : لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ، لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ، قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل : اللباس اسم لما يواري الشيء ، فيجوز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل ، كما جاء في الحديث : " من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه " .
قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } . أي تخونونها وتظلموها بالمجامعة بعد العشاء ، قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) .
قوله تعالى : { فتاب عليكم ) تجاوز عنكم .
قوله تعالى : { وعفا عنكم ) محا ذنوبكم .
قوله تعالى : { فالآن باشروهن } . جامعوهن حلالاً ، سميت المجامعة مباشرة لملاصقة بشرة كل واحد منهما صاحبه .
قوله تعالى : { وابتغوا ما كتب الله لكم } . أي فاطلبوا ما قضى الله لكم ، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد ، قاله أكثر المفسرين ، قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه . وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ ، وقال معاذ بن جبل : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني ليلة القدر .
قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } . نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة ابن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمه ، وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن صرمة ، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم ، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، وقال لأهله قدمي الطعام ؟ فأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً سخيناً فأخذت تعمل له سخينة ، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب ، فلما فرغت من طعامه إذ هو به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله ، فأبى أن يأكل فأصبح صائماً مجهوداً ، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه قال له : يا أبا قيس مالك أصبحت طليحاً ؟ فذكر له حاله ، فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) .
قوله تعالى : { من الخيط الأسود } . يعني بياض النهار من سواد الليل ، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتداً كالخيط .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ، ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال : أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى بعده .
قوله تعالى : { من الفجر } . فعلموا أنما يعني بهما الليل والنهار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحجاج بن منهال ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " .
قال وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت .
واعلم أن الفجر فجران . كاذب وصادق ، فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ، ينتشر سريعاً في الأفق ، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراح ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا هناد بن يوسف بن عيسى قال : أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " .
قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } . فالصائم يحرم عليه الطعام ، والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان الثوري أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول : سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .
قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . والعكوف ، هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع : هو الإقامة في المسجد على عبادة الله ، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد .
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكفت أزواجه من بعده " . والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل ، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم ، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف ، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة ، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي ، كما لا يبطل به الحج ، وقالت طائفة : يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك ، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا ، كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قوله تعالى : { تلك حدود الله } . يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف ، حدود الله أي : ما منع الله عنها ، قال السدي : شروط الله ، وقال شهر بن حوشب : فرائض الله ، وأصل الحد في اللغة المنع ، ومنه يقال للبواب حداد ، لأنه يمنع الناس من الدخول ، وحدود الله ما منع الله من مخالفتها .
قوله تعالى : { فلا تقربوها } . فلا تأتوها .
قوله تعالى : { كذلك } . هكذا .
قوله تعالى : { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . لكي يتقوها فينجوا من العذاب .
ثم قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }
كان في أول فرض الصيام ، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع ، فحصلت المشقة لبعضهم ، فخفف الله تعالى عنهم ذلك ، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع ، سواء نام أو لم ينم ، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به .
{ فتاب } الله { عليكم } بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم { وعفا عنكم } ما سلف من التخون .
{ فالآن } بعد هذه الرخصة والسعة من الله { باشروهن } وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك .
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي : انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء ، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته ، وحصول مقاصد النكاح .
ومما كتب الله لكم ليلة القدر ، الموافقة لليالي صيام رمضان ، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها ، فاللذة مدركة ، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك .
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هذا غاية للأكل والشرب والجماع ، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه .
وفيه : دليل على استحباب السحور للأمر ، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد .
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل ، ويصح صيامه ، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر ، أن يدركه الفجر وهو جنب ، ولازم الحق حق .
{ ثم } إذا طلع الفجر { أتموا الصيام } أي : الإمساك عن المفطرات { إلى الليل } وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته{[126]} عامة لكل أحد ، فإن المعتكف لا يحل له ذلك ، استثناه بقوله : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } أي : وأنتم متصفون بذلك ، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف ، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [ تعالى ] ، وانقطاعا إليه ، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد .
ويستفاد من تعريف المساجد ، أنها المساجد المعروفة عندهم ، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس .
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف .
{ تلك } المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام ، وتحريم الفطر على غير المعذور ، وتحريم الوطء على المعتكف ، ونحو ذلك من المحرمات { حدود الله } التي حدها لعباده ، ونهاهم عنها ، فقال : { فلا تقربوها } أبلغ من قوله : " فلا تفعلوها " لأن القربان ، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه ، والنهي عن وسائله الموصلة إليه .
والعبد مأمور بترك المحرمات ، والبعد منها غاية ما يمكنه ، وترك كل سبب يدعو إليها ، وأما الأوامر فيقول الله فيها : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } فينهى عن مجاوزتها .
{ كذلك } أي : بيَّن [ الله ] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين ، وأوضحها لهم أكمل إيضاح .
{ يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه ، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه ، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم ، ولو علم تحريمه لم يفعله ، فإذا بين الله للناس آياته ، لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فكان ذلك سببا للتقوى .
ثم يمضي السياق يبين للذين آمنوا بعض أحكام الصيام . فيقرر لهم حل المباشرة للنساء في ليلة الصوم ما بين المغرب والفجر ، وحل الطعام والشراب كذلك ، كما يبين لهم مواعيد الصوم من الفجر إلى الغروب ، وحكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد :
( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ؛ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ؛ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل ، ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد . تلك حدود الله فلا تقربوها . كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) .
وفي أول فرض الصوم كانت المباشرة والطعام والشراب تمتنع لو نام الصائم بعد إفطاره . فإذا صحا بعد نومه من الليل - ولو كان قبل الفجر - لم تحل له المباشرة ولم يحل له الطعام والشراب . وقد وقع أن بعضهم لم يجد طعاما عند أهله وقت الإفطار ، فغلبه النوم ، ثم صحا فلم يحل له الطعام والشراب فواصل . ثم جهد في النهار التالي وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] كما وقع أن بعضهم نام بعد الإفطار أو نامت امرأته ، ثم وجد في نفسه دفعة للمباشرة ففعل وبلغ أمره إلى النبي [ ص ] وبدت المشقة في أخذ المسلمين بهذا التكليف ، فردهم الله إلى اليسر وتجربتهم حاضرة في نفوسهم ، ليحسوا بقيمة اليسر وبمدى الرحمة والاستجابة . . ونزلت هذه الآية . نزلت تحل لهم المباشرة ما بين المغرب والفجر :
( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) . .
والرفث مقدمات المباشرة ، أو المباشرة ذاتها ، وكلاهما مقصود هنا ومباح . . ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة ، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة ، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته ، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة :
هن لباس لكم وأنتم لباس لهن . .
واللباس ساتر وواق . . وكذلك هذه الصلة بين الزوجين . تستر كلا منهما وتقيه . والإسلام الذي يأخذهذا الكائن الإنساني بواقعه كله ، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي ، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته . . الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم . وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة ، ويدثرها بها الدثار اللطيف . . في آن . .
ويكشف لهم عن خبيئة مشاعرهم ، وهو يكشف لهم عن رحمته بالاستجابة لهواتف فطرتهم :
( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم . فتاب عليكم وعفا عنكم ) . .
وهذه الخيانة لأنفسهم التي يحدثهم عنها ، تتمثل في الهواتف الحبيسة ، والرغبات المكبوتة ؛ أو تتمثل في الفعل ذاته ، وقد ورد أن بعضهم أتاه . . وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم ، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم . . فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم :
ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله ، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا :
( وابتغوا ما كتب الله لكم ) . .
ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء ، ومن المتعة بالذرية ، ثمرة المباشرة . فكلتاهما من أمر الله ، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه ، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها . وهي موصولة بالله فهي من عطاياه . ومن ورائها حكمة ، ولها في حسابه غاية . فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد ، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط .
بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما ، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما . وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى . . ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها ، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها . وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء . المنهج الخارج من يد الخالق . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
وكما أباح المباشرة أباح الطعام والشراب في الفترة ذاتها :
( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) . .
أي حتى ينتشر النور في الأفق وعلى قمم الجبال . وليس هو ظهور الخيط الأبيض في السماء وهو ما يسمى بالفجر الكاذب . وحسب الروايات التي وردت في تحديد وقت الإمساك نستطيع أن نقول : إنه قبل طلوع الشمس بقليل . وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت . . ربما زيادة في الاحتياط . .
قال ابن جرير - بإسناده - عن سمرة بن جندب : قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض ، حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر " . . ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن حنظلة عن سمرة قال : قال رسول الله [ ص ] : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكنه الفجر المستطير في الأفق " . . والفجر المستطير في الأفق يسبق طلوع الشمس بوقت قليل . . وكان بلال - رضي الله عنه - يبكر في الأذان لتنبيه النائم ، وكان ابن أم مكتوم يؤذن متأخرا للإمساك . وإلى هذا كانت الإشارة إلى أذان بلال . .
ثم يذكر حكم المباشرة في فترة الاعتكاف في المساجد . والاعتكاف - بمعنى الخلوة إلى الله في المساجد . وعدم دخول البيوت إلا لضرورة قضاء الحاجة ، أو ضرورة الطعام والشراب - يستحب في رمضان في الأيام الأخيرة . وكانت سنة رسول الله [ ص ] في العشر الأواخر منه . . وهي فترة تجرد لله . ومن ثم امنتعت فيها المباشرة تحقيقا لهذا التجرد الكامل ، الذي تنسلخ فيه النفس من كل شيء ، ويخلص فيه القلب من كل شاغل :
( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) . .
سواء في ذلك فترة الإمساك وفترة الإفطار .
وفي النهاية يربط الأمر كله بالله على طريقة القرآن في توجيه كل نشاط وكل امتناع . كل أمر وكل نهي . كل حركة وكل سكون :
( تلك حدود الله فلا تقربوها ) . .
والنهي هنا عن القرب . . لتكون هناك منطقة أمان . فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه . والإنسان لا يملك نفسه في كل وقت ؛ فأحرى به ألا يعرض إرادته للامتحان بالقرب من المحظورات المشتهاة ، اعتمادا على أنه يمنع نفسه حين يريد . ولأن المجال هنا مجال حدود للملاذ والشهوات كان الأمر : ( فلا تقربوها ) . . والمقصود هو المواقعة لا القرب . ولكن هذا التحذير على هذا النحو له إيحاؤه في التحرج والتقوى :
( كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) . .
وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها ، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا ، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين .
أحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 187 )
لفظة { أحل } تقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك( {[1719]} ) ، و { ليلة } نصب على الظرف ، وهي اسم جنس فلذلك أفردت ، ونحوه قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي : [ الوافر ]
همُ المَولَى وَقَدْ جَنَفُوا عَلَيْنا . . . وإنّا مِنْ عَدَواتِهِمْ لَزُورُ( {[1720]} )
و { الرفث } كناية عن الجماع ، لأن الله تعالى كريم يكني( {[1721]} ) ، قاله ابن عباس والسدي ، وقرأ ابن مسعود «الرفوث » ، و { الرفث } في غير هذا ما فحش من القول ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
عَنِ اللّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ( {[1722]} ) . . . وقال أبو إسحاق : «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : أو كلام في هذه المعاني( {[1723]} ) ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه »( {[1724]} )
وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء بعد النوم ، أو بعد صلاة العشاء ، على الخلاف( {[1725]} ) ، منهم عمر بن الخطاب ، جاء إلى امرأته فأرادها ، فقالت له : قد نمت ، فظن أنها تعتل ، فوقع بها ثم تحقق أنها قد كانت نامت ، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً : وقال السدي : جرى له هذا في جارية له ، قالوا : فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري ، فنزل صدر الآية فيهم( {[1726]} ) ، فهي ناسخة للحكم المتقرر في منع الوطء بعد النوم ، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع بامرأته( {[1727]} ) ، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه ، وروي أن صرمة بن قيس ، ويقال صرمة بن مالك ، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة( {[1728]} ) ، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل ، فنزل فيه من قوله تعالى : { وكلوا واشربوا } ، واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما بذلك( {[1729]} ) ، كما قال النابغة الجعدي : [ المتقارب ]
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا . . . تَدَاعتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا( {[1730]} )
وقال النابغة أيضاً : [ المتقارب ]
لَبِسْت أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ . . . وَأَفْنَيْت بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا( {[1731]} )
فشبه خلطته لهم باللباس ، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره ، وقال مجاهد والسدي : { لباس } : سكن ، أي يسكن بعضهم إلى بعض ، وإنما سميت هذه الأفعال اختياناً لعاقبة المعصية وجزائها ، فراكبها يخون نفسه ويؤذيها ، و { فتاب عليكم } معناه من المعصية التي واقعتموها ، و { عفا عنكم } يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيداً ، وتأنيساً بزيادة على التوبة ، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء فيما يؤتنف ، بمعنى تركه لكم( {[1732]} ) ، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك .
قال ابن عباس وغيره : { باشروهن } كناية عن الجماع ، مأخوذ من البشرة( {[1733]} ) ، وقد ذكرنا لفظة { الآن }( {[1734]} ) في ماضي قصة البقرة . { وابتغوا ما كتب الله لكم } .
قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه ابتغوا الولد( {[1735]} ) .
وروي أيضاً عن ابن عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى ابتغوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة ، وهو قول حسن ، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن قرة «واتبعوا » من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح { ابتغوا } من الابتغاء .
{ وكلوا واشربوا حتى يتبين } نزلت بسبب صرمة بن قيس ، و { حتى } غاية للتبين ، ولا يصح أن يقع التبين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، و { الخيط } استعارة وتشبيه( {[1736]} ) لرقة البياض أولاً ورقة السواد الحاف به ، ومن ذلك قول أبي داود( {[1737]} ) :
فَلَمَّا بَصُرْنَ بِهِ غدْوَةً . . . وَلاَحَ مِنَ الْفَجْرِ خَيْطٌ أَنَارا
ويروى فنارا ، وقال بعض المفسرين : { الخيط } اللون ، وهذ لا يطرد لغة ، والمراد فيما قال جميع العلماء بياض النهار وسواد الليل ، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم في حديثه المشهور( {[1738]} ) ، و { من } الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، و { الفجر } مأخوذ من تفجر الماء ، لأنه يتفجر شيئاً بعد شيء ، وروي عن سهل بن سعد( {[1739]} ) وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله { من الفجر } فصنع بعض الناس خيطين أبيض وأسود ، فنزل قوله تعالى : { من الفجر }( {[1740]} ) ، وروي أنه كان بين طرفي المدة عام .
قال القاضي أبو محمد : من رمضان إلى رمضان ، تأخر البيان إلى وقت الحاجة( {[1741]} ) ، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : «إن وسادك لعريض » ، وروي أنه قال له : «إنك لعريض القفا » ولهذه الألفاظ تأويلان( {[1742]} ) ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك . فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح : ذلك الفجر المعترض الآخذ في الأفق يمنة ويسرة ، فبطلوع أوله في الأُفق يجب الإمساك ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب( {[1743]} ) ، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن عباس وطلق بن علي( {[1744]} ) وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال ، وذكر عن حذيفة أنه قال : «تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار ، إلا أنّ الشمس لم تطلع » ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : «الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود » .
قال الطبري : «ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس لأن آخره غروبها ، فكذلك أوله طلوعها » .
وحكى النقاش عن الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر ، ويدل على ذلك قول الله تبارك وتعالى : { أقم الصلاة طرفي النهار }( {[1745]} ) [ هود : 114 ] ،
قال القاضي أبو محمد : والقول في نفسه صحيح ، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى : { واختلاف الليل والنهار }( {[1746]} ) [ البقرة : 164 ، آل عمران : 190 ، الجاثية : 5 ] ، وفي الاستدلال بهذه الآية نظر( {[1747]} ) ، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك القضاء( {[1748]} ) .
وقوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمر يقتضي الوجوب ، و { إلى } غاية ، إذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته ، وإذا كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما بعد { إلى } ، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله { إلى الليل } يقتضي النهي عن الوصال( {[1749]} ) ، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال ، وقد واصل جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله { كما كتب على الذين من قبلكم } [ البقرة : 183 ] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم ، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم ، والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس ، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة .
في ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشك في الفجر ، وهو قول جماعة من العلماء( {[1750]} ) .
وقال إسحاق والحسن : لا قضاء عليه كالناسي .
وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ، قالت فرقة : المعنى لا تجامعوهن .
وقال الجمهور : ذلك يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء ، و { عاكفون } ملازمون ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلاً عليه ، قال الراجز : [ الرجز ]
عكف النبيط يلعبونَ الفَنْزَجا( {[1751]} ) . . . وقال الشاعر : [ الطويل ]
وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْليَ عُكَّفاً . . . عَكُوفَ الْبَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ( {[1752]} )
وقال أبو عمرو وأبو حاتم ، قرأ قتادة «عكفون بغير ألف ، والاعتكاف سنة ، وقرأ الأعمش " في المسجد " بالإفراد ، وقال : وهو المسجد الحرام .
قال مالك رحمه الله وجماعة معه : لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات ، وروي عن مالك أيضاً أن ذلك في كل مسجد ، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله .
وقال قوم : لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك .
وقالت فرقة لا اعتكاف إلى في مسجد نبي( {[1753]} ) .
وقال مالك : لا يعتكف أقل من يوم وليلة ، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر .
وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء .
وقالت طائفة : أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر .
وقال غيره : يعتكف بغير صوم ، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد( {[1754]} ) .
و { تلك } إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي ، والحدود : الحواجز بين الإباحة والحظر ، ومنه قيل للبواب : حداد لأنه يمنع ، ومنه الحاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة( {[1755]} ) ، والآيات : العلامات الهادية إلى الحق ، و { لعلهم } ترّجٍ في حقهم ، وظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء .