قوله تعالى : { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } . قبل نسخت الآية الأولى بهذه الآية ، وأصل الثقافة الحذق والبصر بالأمر ، ومعناه : واقتلوهم حيث أبصرتم مقاتلتهم وتمكنتم من قتلهم .
قوله تعالى : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } . وذلك أنهم أخرجوا المسلمين من مكة ، فقال : أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم من دياركم .
قوله تعالى : { والفتنة أشد من القتل } . يعني شركهم بالله عز وجل أشد وأعظم من قتلكم إياهم في الحرم والإحرام ، قرأ حمزة والكسائي : ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم بغير ألف فيهن ، من القتل ، على معنى ولا تقتلوا بعضهم ، تقول العرب : قتلنا بني فلان وإنما قتلوا بعضهم ، وقرأ الباقون بالألف ، من القتال وكان هذا في ابتداء الإسلام ، كان لا يحل بدايتهم بالقتال في البلد الحرام ، ثم صار منسوخاً بقوله تعالى ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) هذا قول قتادة ، وقال مقاتل بن حيان : قوله ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي حيث أدركتموهم ، في الحل والحرم ، صارت هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام ) ثم نسختها آية السيف في براءة فهي ناسخة منسوخة وقال مجاهد وجماعة : هذه الآية محكمة ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم .
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } هذا أمر بقتالهم ، أينما وجدوا في كل وقت ، وفي كل زمان قتال مدافعة ، وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم قتالهم { عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وأنه لا يجوز إلا أن يبدأوا بالقتال ، فإنهم يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم ، وهذا مستمر في كل وقت ، حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا ، فإن الله يتوب عليهم ، ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله ، والشرك في المسجد الحرام ، وصد الرسول والمؤمنين عنه وهذا من رحمته وكرمه بعباده .
ولما كان القتال عند المسجد الحرام ، يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام ، أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك ، والصد عن دينه ، أشد من مفسدة القتل ، فليس عليكم - أيها المسلمون - حرج في قتالهم .
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، وهي : أنه يرتكب أخف المفسدتين ، لدفع أعلاهما .
ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم ، وأخرجوهم من ديارهم ، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة ، وفي أي مكان وجدوهم . باستثناء المسجد الحرام . إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال . وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم ، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم :
( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه . فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) . .
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي ، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله ، وتزين لهم الكفر به أو الاعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد ، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر ، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه ؛ بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها .
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة ، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية . . هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام ، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني . فغاية الوجود الإنساني هي العبادة [ ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله ] . وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية ، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة ، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته . ومن ثم يدفعه بالقتل . . لذلك لم يقل : وقاتلوهم . إنما قال : ( واقتلوهم ) . . ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي حيث وجدتموهم .
في أية حالة كانوا عليها ؛ وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .
ولا قتال عند المسجد الحرام ، الذي كتب الله له الأمن ، وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم [ عليه السلام ] وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام . . لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته ، فيبدأون بقتال المسلمين عنده . وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم . . فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين ، الذين يفتنون الناس عن دينهم ، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام ، الذي عاشوا في جواره آمنين .
{ واقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } ( 191 )
قال ابن إسحاق وغيره : نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد ، وهي سرية عبد الله بن جحش( {[1778]} ) ، و { ثقفتموهم } معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم ، يقال رجل ثقف لقف( {[1779]} ) إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور ، { وأخرجوهم } . قال الطبري : «الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : بل الخطاب لجميع المؤمنين ، ويقال { أخرجوكم } إذا أخرجوا بعضهم الأجل قدراً وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون ، { والفتنة أشد من القتل } أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد من القتل .
قال مجاهد : «أي من أن يقتل المؤمن ، فالقتل أخف عليه من الفتنة » . قال غيره : بل المعنى الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم ، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي( {[1780]} ) .
وقوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الآية ، قال الجمهور : كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع
. قال الربيع : نسخه { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .
وقال قتادة : نسخة قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( {[1781]} ) [ التوبة : 5 ] .
وقال مجاهد : «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل »( {[1782]} ) .
وقرأ حمزة والكسائي والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم » بالقتل في الأربعة( {[1783]} ) ، ولا خلاف في الأخيرة أنها { فاقتلوهم } ، والمعنى على قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون ، وذلك كقوله تعالى : { قتل معه ربيون كثير فما وهنوا }( {[1784]} ) [ آل عمران : 146 ] أي فما وهن الباقون .