قوله تعالى : { واتقوا فتنةً } ، اختباراً وبلاءً .
قوله تعالى : { لا تصيبن } ، قوله : ( لا تصيبن ) ليس بجزاء محض ، ولو كان جزاءً لم تدخل فيه النون ، لكنه نفي ، وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده } [ النمل : 18 ] وتقديره : واتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم ، فهو كقول القائل : انزل عن الدابة لا تطرحك ، ولا تطرحنك ، فهذا جواب الأمر بلفظ النهي ، معناه : إن تنزل لا تطرحك . قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه : اتقوا فتنة تصيب الظالم ، وغير الظالم . قال الحسن : نزلت في علي ، وعمار ، وطلحة ، والزبير رضي الله عنهم قال : الزبير : لقد قرأنا هذه الآية وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها ، يعني ما كان يوم الجمل . وقال السدي ، ومقاتل ، والضحاك ، وقتادة : هذا في قوم مخصوصين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم الفتنة يوم الجمل ، وقال ابن عباس : أمر الله عز وجل المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم ، فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر الحارثي ، أنا محمد ابن يعقوب الكسائي ، أنا عبد الله بن محمود ، أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن سيف بن أبي سليمان ، قال : سمعت عدي بن عدي الكندي يقول : حدثني مولىً لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة ) .
وقال ابن زيد : أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضاً . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ، فمن وجد ملجأ أو معاذاً فليعذ به ) .
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تصيب فاعل الظلم وغيره ، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير ، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره ، وتقوى{[340]} هذه الفتنة بالنهي عن المنكر ، وقمع أهل الشر والفساد ، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن .
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ لمن تعرض لمساخطه ، وجانب رضاه .
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد ، وعن تلبية دعوة الحياة ، والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان :
( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب ) . .
والفتنة : الابتلاء أو البلاء . . والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة الله ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ؛ ولا تأخذ الطريق على المفسدين . . جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين . . فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع [ فضلا على أن يروا دين الله لا يتبع ؛ بل أن يروا ألوهية الله تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها ! ] وهم ساكتون . ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون !
هذه الآية تحتمل تأويلات ، أسبقها إلى النفس أن يريد الله أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط ، بل تصيب الكل من ظالم وبريء ، وهذا التأويل تأول فيها الزبير بن العوام رضي الله عنه ، فإنه قال يوم الجمل{[5283]} وما علمت أنَّا أردنا بهذه الآية إلا اليوم ، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب بها ذلك الوقت ، وكذلك تأول الحسن البصري ، فإنه قال : هذه الآية في علي وعمار وطلحة والزبير ، وكذلك تأول ابن عباس ، فإنه قال : أمر الله المؤمنين في هذه الآية أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، وبينه القتبي فيما ذكر مكي عنه بياناً شافياً .
قال القاضي أبو محمد : فيجيء قوله { لا تصيبن } على هذا التأويل صفة ل { فتنة } ، فكان الواجب إذا قدرنا ذلك أن يكون اللفظ لا تصيب وتلطف لدخول النون الثقيلة في الخبر عن الفتنة فقال الزجّاج : زعم بعض النحويين أن الكلام جزاء فيه طرق من النهي ، قال ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم }{[5284]} فالمعنى أن تدخلوا لا يحطمنكم فكذلك هذا إن تتقوا لا تصيبن{[5285]} ، وقال قوم : هو خبر بمعنى الجزاء فلذلك أمكن دخول النون{[5286]} ، وقال المهدوي : وقيل هو جواب قسم مقدر تقديره واتقوا فتنة لا تصيبن ، ودخلت النون مع لا حملاً على دخولها مع اللام فقط .
قال القاضي أبو محمد : وهذا في القول تكره ، لأن جواب القسم إذا دخلته «لا » أو كان منفياً في الجملة لم تدخل النون ، وإذا كان موجباً دخلته اللام والنون الشديدة كقوله والله لا يقوم زيد والله ليقومن زيد ، هذا هو قانون الباب ولكن معنى هذه الآية يستقيم مع التكره الذي ذكرناه والتأويل الآخر في الآية هو أن يكون قوله { واتقوا فتنة } خطاباً عاماً لجميع المؤمنين مستقلاً بنفسه تم الكلام عنده ثم ابتدأ نهي الظلمة خاصة عن التعرض للظلم فتصيبهم الفتنة خاصة وأخرج النهي على جهة المخاطبة للفتنة فهو نهي محول .
والعرب تفعل هذا كما قالوا لا أرينك ها هنا يريدون لا تقم ها هنا فتقع مني رؤيتك ، ولم يريدوا نهي الإنسان الرائي نفسه ، فكذلك المراد في الآية لا يقع من ظلمتكم ظلم فتقع من الفتنة إصابتهم ، نحا إليه ، الزجّاج ، وهو قول أبي العباس المبرد وحكاه النقاش عن الفراء ، ونهي الظلمة ها هنا بلفظ مخاطبة الجمع كما تقول لقوم لا يفعل سفهاءكم كذا وكذا وأنت إنما تريد نهي السفهاء فقط ، و { خاصة } نعت لمصدر محذوف تقديره إصابة خاصة ، فهي نصب على الحال لما انحذف المصدر من الضمير في { تصيبن } وهذا الفعل هو العامل ، ويحتمل أن تكون { خاصة } حالاً من الضمير في { ظلموا } ولا يحتاج إلى تقدير مصدر محذوف والأول أمكن في المعنى ، وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو جعفر محمد بن علي والربيع بن أنس وأبو العالية وابن جماز «لتصيبن » باللام على جواب قسم ، والمعنى على هذا وعيد الظلمة فقط ، قال أبو الفتح : يحتمل أن يراد بهذه القراءة «لا تصيبن » فحذف الألف من «لا » تخفيفاً واكتفاء بالحركة كما قالوا أم والله{[5287]} ويحتمل أن يراد بقراءة الجماعة ، «لا تصيبن » فمطلت حركة اللام فحدثت عنها ألف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تنطع في التحميل{[5288]} وحكى النقاش هذه القراءة عن الزبير بن العوام ، وهذا خلاف لما حكى الطبري وغيره من تأويل الزبير رضي الله عنه في الآية ، وحكى النقاش عن ابن مسعود أنه قرأ «واتقوا فتنة أن تصيب » وقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } وعيد يلتئم مع تأويل الزبير والحسن التئاماً حسناً ويلتئم مع سائر التأويلات بوجوه مختلفة .
وروي عن علي بن سليمان الأخفش أن قوله { لا تصيبن } هي{[5289]} على معنى الدعاء ذكره الزهراوي .