فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

{ واتقوا } خطاب للمؤمنين مطلقا صلحائهم وغيرهم { فتنة } المراد بها العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء ، وتسلط الظلمة وغير ذلك أي اتقوا سبب فتنة { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي اتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح ، ولا يختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم ، وفي { لا } وجهان ( أحدهما ) أنها ناهية والنهي في الصورة للمصيبة ، وفي المعنى للمخاطبين ( والثاني ) أنها نافية والجملة صفة لفتنة .

وهذا واضح من هذه الجهة إلا أنه يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط وفيه خلاف .

وقد اختلف النحاة في هذه النون المؤكدة في تصيبن فقال الفراء : هو جواب الأمر بلفظ النهي ، ومثله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } أي إن تدخلوا ، وقال المبرد : أنه نهي بعد أمر ، والمعنى النهي للظالمين أي لا يقربن الظلم ومثله ما روي عن سيبويه لا أريتك ههنا أي لا تكن ههنا فإن من كان ههنا رأيته وقال الجرجاني : نهي في موضع وصف لفتنة .

وقيل { لا تصيبن } جواب قسم محذوف ، والجملة القسمية صفة لفتنة أي فتنة والله لا تصيبن ودخول النون أيضا قليل لأنه منفي ، قال الزبير : الفتنة البلاء والأمر الذي هو كائن .

وعن الحسن قال : نزلت في علي وعثمان وطلحة والزبير ، وعن الضحاك قال : نزلت في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وعن السدي قال : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، وكان من المقتولين طلحة والزبير وهما من أهل بدر فتصيب الظالم والصالح عامة ، وعن مجاهد والضحاك وقتادة مثله .

روى البغوي بسنده عن عدي بن عدي قال : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرنيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة ) {[830]} .

والذي ذكره ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) {[831]} .

وأخرج أبو داود عن جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا ) {[832]} .

قال ابن زيد : أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا .

وروى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، من تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به ) {[833]} .

قال الكرخي : واستشكل هذا بقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وأجيب بأن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فالواجب على كل من رآه أن يغيره إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة هذا بفعله وهذا برضاه ، وقد جعل الله بحكمته الراضي بمنزلة العامل فانتظم في العقوبة اه .

وعلامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي ، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده ، فكل من لم يكن بهذه الحالة فهو راض بالمنكر فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار ، هكذا قرره القسطلاني على البخاري .

{ واعلموا أن الله شديد العقاب } ومن شدة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه ، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ولا يعذب إلا بجنايته ، فيمكن حمل ما في هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض ، ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة والله أعلم .

ويمكن أن يقال أن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكون الإصابة المتعدية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم ، وعن ابن عباس قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب{[834]} .


[830]:- ضعيف الجامع الصغير 1675.
[831]:- أبو داوود كتاب الملاحم باب 17.
[832]:- أبو داود كتاب الملاحم باب 17.
[833]:- مسلم 2887.
[834]:- روى البخاري 5/94-216 عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا".