أحدهما : أنَّها ناهيةٌ ، وعلى هذا ، فالجملةُ لا يجوزُ أن تكون صفةً ل " فِتْنَةً " لأنَّ الجملةًَ الطلبية لا تقعُ صفةً ، ويجوز أن تكون محمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصِّفة أي : فتنةً مقولاً فيها : لا تُصيبن ، والنَّهيُ في الصورة للمصيبة ، وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم بسببها مصيبة لا تخص ظالمكم ، ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها ، ونظيرُ إضمار القول قوله : [ الرجز ]
جاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَط {[17261]}*** . . .
والثاني : أن " لا " نافية ، والجملةُ صفة ل " فِتْنَةٌ " وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ، ولا طلب ، ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يجري المنفيُ ب " لا " مجرى النَّهي ؟ فقال بعضهم : نعم ؛ واستشهد بقوله : [ الطويل ]
فَلا الجَارةُ الدُّنْيَا بها تَلْحَينَّهَا *** ولا الضَّيْفُ فيها إن أنَاخَ مُحَوِّلُ{[17262]}
فَلاَ ذَا نَعِيمٍ يُتْرَكنْ لِنعيمِهِ *** وإنْ قال قَرِّظْني وخُذْ رِشْوةً أبَى
وَلاَ ذَا بئِيسٍ يتركنَّ لِبُؤْسِهِ *** فَيَنْفَعَهُ شَكُوٌ إليه إن اشْتَكى{[17263]}
فإذا جاز أن يُؤكد المنفيُّ ب " لا " مع انفصاله ، فلأن يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصول بطريق الأولى إلاَّ أنَّ الجمهور يحملون ذلك على الضرورة .
وزعم الفرَّاءُ أنَّ : " لا تُصِيبَنَّ " جواب للأمر نحو : انزلْ عن الدَّابة لا تَطْرَحَنَّكَ ، أي : إن تنزل عنها لا تَطْرَحنك ، ومنه قوله تعالى { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] أي : إن تدخلوا لا يَحْطِمنَّكُم ، فدخلت النُّونُ لِما فيه من معنى الجزاء .
قال أبو حيان{[17264]} . وقوله " لا يحطمنَّكُم " وهذا المثالُ ، ليس نظير { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين } ؛ لأنه ينتظم من المثالِ والآيةِ شرطٌ وجزاءٌ كما قدَّر ، ولا ينتظمُ ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إن تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى .
قال الزمخشري{[17265]} : " لا تُصِيبَنَّ " لا يخلو إمَّا أن يكون جواباً للأمر ، أو نهياً بعد أمرٍ ، أو صفة ل " فِتْنَةً " فإن كان جواباً فالمعنى : إن أصابتكُم لا تُصيب الظَّالمين منكم خاصة بل تَعُمُّكُم .
قال أبو حيان " وأخذ الزمخشريُّ قول الفرَّاءِ ، وزاده فساداً وخبَّط فيه " فذكر ما نقلته عنه ثم قال : " فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو : " اتَّقُوا " ثمَّ قدَّر أداة الشطرِ داخلةً على غير مضارع " اتقُوا " ؟ فقال المعنى : إن أصابتكُم يعني : الفتنة . وانظر كيف قدَّر الفرَّاءُ ، انزل عن الدَّابَّةِ لا تَطْرَحَنَّكَ ، وفي قوله : { ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] فأدخل أداة الشَّرط على مضارع فعل الأمر ، وهكذا يُقدَّر ما كان جواباً للأمر " .
وقيل : " لا تُصِيبَنَّ " جوابُ قسم محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ ل " فِتْنَةً " أي : فتنة واللَّه لا تُصيبنَّ ، ودخولُ النُّون أيضاً قليلٌ ، لأنه منفيٌّ .
وقال أبُو البقاءِ {[17266]} " ودخلتِ النُّونُ على المنفي في غير القسم على الشُّذُوذِ " وظاهرُ هذا أنَّهُ إذا كان النَّفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النُّونِ ، وليس كذلك ، وقيل : إنَّ اللام لامُ التَّوكيد والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنَّما أشبعتْ فتحةُ اللاَّمِ ؛ فتولَّدت ألفاً ، فدخول النُّون فيها قياسٌ ، وتأثر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة " لتُصِيبنَّ " وهي قراءة أمير{[17267]} المؤمنين ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، والباقر ، والربيع بن أنس ، وأبي العالية ، وابن جماز .
وممَّن وجَّه ذلك ابنُ جني ، والعجبُ أنه وجَّه هذه القراءة الشَّاذَّة بتوجيهٍ يَرُدُّهَا إلى قراءةِ العامَّة ، فقال : " يجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ، ومن ذكر معه مخففةً من " لا " يعني حذفت ألفُ " لا " تخفيفاً واكتفي بالحركة " .
قال : " كما قالوا : أم واللَّه ، يريدون : أما واللَّهِ " .
قال المهدويُّ " كما حذفت مِنْ " ما " وهي أخت " لا " في نحو : أم والله لأفعلنَّ وشبهه " .
قوله " أخت لا " ليس كذلك ؛ لأنَّ " أما " هذه للاستفتاح ، ك " ألاَ " ، وليست من النَّافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من هذا أنَّ ابن جني خرَّج كلاًّ من القراءتين على الأخرى . وهذا لا ينبغي أن يجوز ألبتَّة ، كيف يُوجدُ لفظ نفي ، ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسه ؟ وهذا ممَّا يقلب الحقائق ، ويُؤدِّي إلى التَّعمية .
وقال المبرِّدُ ، والفرَّاءُ ، والزَّجَّاجُ : في قراءة العامَّة " لا تُصِيبنَّ " الكلام قد تمَّ عند قوله : " فِتْنَةً " وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة ، والمرادُ هنا : لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة .
قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه : " وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ ؛ فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً .
ثم قيل : لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة " .
وقال عليُّ بن سليمان : هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ ، وإنَّما جعله نهياً بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي ب " لا " عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة ، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ ، فصار التقدير : لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنَّه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ .
وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال : النَّهْي بتقديريه ، والدُّعاء بتقديريه ، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول .
قوله : " مِنكُمْ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أظهرها : أنَّها للبيان مطلقاً ، والثاني : أنَّها حالٌ ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
وجعلها الزمخشريُّ : للتبعيض على تقدير ، وللبيان على تقدير آخر ، فقال " فإن قلت : فما معنى " مِنْ " في قوله : { الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ } ؟ قلت : التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ ، والبيان على الثاني ؛ لأنَّ المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم ، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ " يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر ، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر ، وكذا الثاني : نظرٌ ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان .
قوله : " خَاصَّةً " فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله : " لا تُصيبَنَّ " وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ ، تقديره : إصابةً خاصة .
الثاني : أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ ، تقديره : لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة ، بل تعمُّهم ، وتعمُّ غيرهم .
الثالث : أنها حالٌ من فاعل " ظَلَمُوا " قاله ابن عطية . قال أبو حيان : " ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ " .
قال شهابُ الدِّين : " ولا أدري ما عدمُ تعقُّله ؟ فإنَّ المعنى : واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ، ولا يظلم غيرهم ، بمعنى : أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ ، ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء ، بل تصيبهم ، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة ، وهذا معنى واضح " .
فإن قيل : إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب ، وغيره ، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب ؟
فالجوابُ : أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت ، والفقر ، والعمى ، والزمانة بعبده ابتداء ، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين .
روي عن الحسن قال : " نزلت في علي ، وعمار وطلحة ، والزبير ، وهو يوم الجمل خاصة " {[17268]} .
قال الزبير : " نزلت فينا وقرأناها زمانا وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها " {[17269]} .
وعن السدي : " نزلت في أهل بدر واقتتلوا يوم الجمل " {[17270]} .
روي عن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوما إذ أقبل علي –رضي الله عنه- فضحك الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف حبك لعلي ؟
فقال : يا رسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد .
فقال : كيف أنت إذا سرت تقاتله ؟ وقال ابن عباس : " أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم " وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة " {[17271]} .
وقال ابن زيد : " أراد بالفتنة افتراق الكلمة ، ومخالفة بعضهم بعضا " {[17272]} .
روى أبو هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، ومن تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به " {[17273]} .
ثم قال : " واعلموا أن الله شديد العقاب " ، والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة .