الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ} (25)

قوله تعالى : { لاَّ تُصِيبَنَّ } : في " لا " وجهان ، أحدهما أنها ناهيةٌ ، وعلى هذا فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل " فتنة " ؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً ، ويجوز أن تكون معمولة لقول ، ذلك القولُ هو الصفةُ أي : فتنةً مقولاً فيها : لا تصيبنَّ . والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين ، وهو في المعنى كقولهم : لا أُرَيَنَّك ههنا أي : لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ ظالمَكم . ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها . ونظيرُ إضمار القولِ قولُه :

جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ ***

أي : مقول فيه : هل رأيت . والثاني : أن " لا " نافية ، والجملةُ صفةٌ ل " فتنة " وهذا واضحٌ من هذه الجهة ، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط ، وفيه خلافٌ : هل يَجْري النفيُ ب " لا " مَجْرى النهي ؟ من الناس من قال نعم ، واستشهد بقوله :

فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها *** ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ

وقال آخر :

فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه *** وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى

ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه *** فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى

فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب " لا " مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصولِ بطريق الأَوْلى . إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة .

وزعم الفراء أنَّ " لا تصيبَنَّ " جواب للأمر نحو : " انزلْ عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك " ، أي : إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك ، ومنه قوله { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ }

بالنمل : 18 ] ، أي : إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم ، فدخلت النونُ لِما فيه من معنى الجزاء . قال الشيخ : " وقوله : لا يَحْطِمَنَّكم وهذا المثالُ ليس نظيرَ " فتنةً لا تصيبنَّ الذين " لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ وجزاءٌ كما قَدَّر ، ولا ينتظم ذلك هنا ، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير : إنْ تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا ، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى " .

قال الزمخشري : " لا تصيبنَّ " : لا يخلو : إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة . فإذا كانت جواباً فالمعنى : إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة ، بل تَعُمُّكم " ، قال الشيخ : " وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه " ، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال : " فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو " اتقوا " ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع " اتقوا " فقال : المعنى : إن أصابَتْكم ، يعني الفتنة . وانظر كيف قدَّر الفراء : انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك ، وفي قوله :

{ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } [ النمل : 18 ] ، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [ يُقَدَّر ] ما كان جواباً للأمر " .

وقيل : " لا تصيبنَّ " جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي : فتنة واللهِ لا تصيبنَّ . ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ . وقال : أبو البقاء : " ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ " ، وظاهرُ هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ ، وليس كذلك .

وقيل : إن اللامَ لامُ التوكيد ، والفعلُ بعدها مثبتٌ ، وإنما مُطِلت اللام ، أي : أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً ، فدخول النون فيها قياسٌ . / وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة " لتصيبَنَّ " وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز . وممن وَجَّه ذلك ابن جني . والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة ، فقال : " ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من " لا " يعني حُذِفَتْ ألفُ " لا " تخفيفاً ، واكتُفي بالحركة " ، قال : " كما قالوا : أمَ والله يريدون : أما والله " . قال المهدوي : " كما حُذِفت مِنْ " ما " وهي أختُ " لا " في نحو " أما والله لأفعلنَّ " وشبهه . قوله " أخت لا " ليس كذلك لأن " أما " هذه للاستفتاحِ ك " ألا " ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى ، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة ، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه ؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي إلى التعمية .

وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة : " لا تصيبنَّ " : " إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله " فتنة " وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين ، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة . والمرادُ هنا : لا يتعرَّض الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة " .

قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه : " وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل : واحذروا ذنباً أو عقاباً ، ثم قيل : لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة " .

وقال علي بن سليمان " هو نَهْيٌ على معنى الدعاء ، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز ، فيصير المعنى : لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم ، فكأنه قيل : واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ " . وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال : النهي بتقديرَيْه ، والدعاء بتقديريْه ، والجواب للأمر بتقديريه ، وكونِها صفةً بتقدير القول .

قوله : { مِنْكُمْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها للبيان مطلقاً . والثاني : أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف ، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ ، وللبيان على تقدير آخر فقال : " فإن قلت : ما معنى " مِنْ " في قوله " الذين ظلموا منكم " ؟ قلت : التبعيضُ على الوجه الأول ، والبيان على الثاني ؛ لأن المعنى : لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم ، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس " . قلت : يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر ، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ . وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان .

قوله : { خَاصَّةً } فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله : " لا تصيبنَّ " ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره : إصابةً خاصة . الثاني : أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره : لا تصيبنَّ الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم . والثالث : أنه حالٌ من فاعل " ظلموا " قاله ابن عطية . قال الشيخ : " ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ " . قلت : ولا أدري ما عَدَمُ تَعَقُّلِه ؟ فإن المعنى : واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم غيرُهم ، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم ، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة ، وهذا معنًى واضح .