معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية ، نزلت في الحث على غزوة تبوك ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، حين طابت الثمار والظلال ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وري بغيرها حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفاوز هائلة ، وعدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم } أي : قال لكم رسول الله : " انفروا " اخرجوا في سبيل الله " اثاقلتم " أي : تثاقلتم وتبأطأتم إلى الأرض أي لزمتم أرضكم ومساكنكم ، " أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة " ، أي : بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

{ 38 - 39 } قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

اعلم أن كثيرا من هذه السورة الكريمة ، نزلت في غزوة تبوك ، إذ ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى غزو الروم ، وكان الوقت حارا ، والزاد قليلا ، والمعيشة عسرة ، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتبهم اللّه تعالى عليه ويستنهضهم ، فقال تعالى :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ألا تعملون بمقتضى الإيمان ، وداعي{[370]} اليقين من المبادرة لأمر اللّه ، والمسارعة إلى رضاه ، وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم ، ف { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } أي : تكاسلتم ، وملتم إلى الأرض والدعة والسكون فيها .

{ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ } أي : ما حالكم إلا حال من رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة ، فكأنه ما آمن بها .

{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } التي مالت بكم ، وقدمتموها على الآخرة { إِلَّا قَلِيلٌ } أفليس قد جعل اللّه لكم عقولا تَزِنُون بها الأمور ، وأيها أحق بالإيثار ؟ .

أفليست الدنيا -من أولها إلى آخرها- لا نسبة لها في الآخرة . فما مقدار عمر الإنسان القصير جدا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها ، فيجعل سعيه وكده وهمه وإرادته لا يتعدى حياته الدنيا القصيرة المملوءة بالأكدار ، المشحونة بالأخطار .

فبأي رَأْيٍ رأيتم إيثارها على الدار الآخرة الجامعة لكل نعيم ، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، وأنتم فيها خالدون ، فواللّه ما آثر الدنيا على الآخرة من وقر الإيمان في قلبه ، ولا من جزل رأيه ، ولا من عُدَّ من أولي الألباب ، ثم توعدهم على عدم النفير فقال :


[370]:- في ب، ودواعي.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

38

ذلك بدء العتاب للمتخلفين والتهديد بعاقبة التثاقل عن الجهاد في سبيل اللّه ، والتذكير لهم بما كان من نصر اللّه لرسوله ، قبل أن يكون معه منهم أحد ، وبقدرته على إعادة هذا النصر بدونهم ، فلا ينالهم عندئذ إلا إثم التخلف والتقصير .

( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه اثاقلتم إلى الأرض )

إنها ثقلة الأرض ، ومطامع الأرض ، وتصورات الأرض . . ثقلة الخوف على الحياة ، والخوف على المال ، والخوف على اللذائذ والمصالح والمتاع . . ثقلة الدعة والراحة والاستقرار . . ثقلة الذات الفانية والأجل المحدود والهدف القريب . . . ثقلة اللحم والدم والتراب . . والتعبير يلقي كل هذه الظلال بجرس ألفاظه : ( اثاقلتم ) . وهي بجرسها تمثل الجسم المسترخي الثقيل ، يرفعه الرافعون في جهد فيسقط منهم في ثقل ! ويلقيها بمعنى ألفاظه : ( اثاقلتم إلى الأرض ) . . وما لها من جاذبية تشد إلى أسفل وتقاوم رفرفة الأرواح وانطلاق الأشواق .

إن النفرة للجهاد في سبيل اللّه انطلاق من قيد الأرض ، وارتفاع على ثقلة اللحم والدم ؛ وتحقيق للمعنى العلوى في الإنسان ، وتغليب لعنصر الشوق المجنح في كيانه على عنصر القيد والضرورة ؛ وتطلع إلى الخلود الممتد ، وخلاص من الفناء المحدود :

( أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ? فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل )

وما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله ، إلا وفي هذه العقيدة دخل ، وفي إيمان صاحبها بها وهن . لذلك يقول الرسول - [ ص ] - " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر ، والآجال بيد اللّه ، والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَا لَكُمۡ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلۡتُمۡ إِلَى ٱلۡأَرۡضِۚ أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (38)

هذه الآية هي بلا اختلاف نازلة عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفاً بين راكب وراجل ، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون فالعتاب في هذه الآية هو للقبائل وللمؤمنين الذين كانوا بالمدينة ، وخص الثلاثة كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية بذلك التذنيب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم ، وكان تخلفهم لغير علة حسب ما يأتي ، وقوله { ما لكم } استفهام بمعنى التقرير والتوبيخ ، وقوله { قيل } يريد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن صرفه الفعل لا يسمى فاعلة يقتضي إغلاظاً ومخاشنة ما ، و «النفر » هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث ، يقال في ابن آدم نفر إلى الأمر ينفر نفيراً ونفراً ، ويقال في الدابة نفرت تنفرُ بضم الفاء نفوراً{[5650]} ، وقوله { اثاقلتم } أصله تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء فاحتيج إلى ألف الوصل كما قال { فادارأتم }{[5651]} وكما تقول اَّزَّين ، وكما قال الشاعر [ الكسائي ] : [ البسيط ]

تولي الضجيع إذا ما استافها خصراً*** عذب المذاق إذا ما اتّابَع القبل{[5652]}

وقرأ الأعمش فيما حكى المهدوي وغيره «تثاقلتم » على الأصل ، وذكرها أبو حاتم «تتثاقلتم » بتاءين ثم ثاء مثلثة ، وقال هي خطأ أو غلط ، وصوب «تثاقلتم » بتاء واحدة وثاء مثلثة أن لو قرىء بها ، وقوله { اثاقلتم إلى الأرض } عبارة عن تخلفهم ونكولهم وتركهم الغزو لسكنى ديارهم والتزام نخلهم وظلالهم ، وهو نحو من أخلد إلى الأرض ، وقوله : { أرضيتم } تقرير يقول أرضيتم نزر الدنيا على خطير الآخرة وحظها الأسعد ، ثم أخبر فقال إن الدنيا بالإضافة إلى الآخرة قليل نزر ، فتعطي قوة الكلام التعجب من ضلال من يرضى النزر بدل الكثير الباقي{[5653]} .


[5650]:-ويقال أيضا "تنفر" بكسر الفاء كما قال صاحب اللسان. ويقال: قوم نفور، ومنه قوله تعالى: {ولوا على أدبارهم نفورا} الإسراء (46).
[5651]:- من قوله تعالى في الآية (72) من سورة (البقرة): {وإذ قتلتم نفسا فاّادرأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون}.
[5652]:- البيت أنشده الكسائي كما قال القرطبي. وساف الشيء يسوفه ويسافه سوفا وساوفه واستافه، كل ذلك بمعنى: شمّه، والخصر بكسر الصاد: البارد من كل شيء. والشاهد في قوله: اتّابع، إذ أصلها "تتابع"، ومن الكلمات التي حصل فيها الإدغام على مثال "اثّاقلتم" "اطيّرنا" في قوله تعالى في سورة النمل: {قالوا اطيرنا بك وبمن معم}، "وازينت" في قوله تعالى في سورة يونس: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينّت}.
[5653]:- النّزر: القليل التافه من كل شيء.