قوله تعالى : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار } . هذه الآية متصلة بقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ( أيود ) يعني : أيحب ( أحدكم أن تكون له جنة ) أي بستان . ( من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ) .
قوله تعالى : { له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء } . أولاد صغار ضعاف عجزة .
قوله تعالى : { فأصابها إعصار } . وهو الريح العاصف التي ترتفع إلى السماء كأنها عمود ، وجمعه أعاصير .
قوله تعالى : { فيه نار فاحترقت } . هذا مثل ضربه الله لعمل المنافق والمرائي يقول : عمله في حسنه كحسن الجنة ينتفع به كما ينتفع صاحب الجنة بالجنة ، فإذا كبر أو ضعف ، وصار له أولاد ضعاف ، وأصاب جنته إعصار فيه نار فاحترقت ، فصار أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها لكبره وضعف أولاده عن إصلاحها لصغرهم ، ولم يجد هو ما يعود به على أولاده ، ولا أولاده ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعاً متحيرين عجزة ، لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق والمرائي ، حين لا مغيث لهما ولا توبة ولا إقالة .
قال عبيد بن عمير : قال عمر رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن ترون هذه الآية نزلت ( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب ) قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر رضي الله عنه فقال : قولوا نعلم أولا نعلم ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر رضي الله عنه : ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضربت مثلاً لعمل ، فقال عمر رضي الله عنه : أي عمل ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لعمل منافق ومراء ، قال عمر رضي الله عنه : لأي رجل ؟ قال : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله .
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده ، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات ، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى ، وتلك الجنة فيها{[149]} الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة ، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته ، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه ، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له ، بل هم كل عليه ، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو ، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة ، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن ، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن ، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار ، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء ، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار ، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل ، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما ، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه ، فقال : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى ، كيف يمحق آثار الصدقة محقا في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ، ولا يستطيع لذلك المحق ردا . تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء . كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء :
( أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ، وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ؟ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات . .
( جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، له فيها من كل الثمرات ) . .
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة . . وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها . . كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية . كذلك هي ذات روح وظل ، وذات خير وبركة ، وذات غذاء وري ، وذات زكاة ونماء !
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة - أو هذه الحسنة - ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا ، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار
ومتى ؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها ، وحاجة إلى ظلها ونعمائها !
( وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء . فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ) . .
من ذا الذي يود هذا ؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه
( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ) . .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص ، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة ؛ وما فيه من نضارة وروح وجمال . ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه نار . . يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار ، قبل أن تذهب فرصة الاختيار ، وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار !
وبعد فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة ، وفي طريقة عرضه وتنسيقه . . . هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى . بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها . . إنها جميعا تعرض في محيط متجانس . محيط زراعي ! حبة أنبتت سبع سنابل . صفوان عليه تراب فأصابه وابل . جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين . جنة من نخيل وأعناب . . حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير .
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير . . حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية . حقيقة الأصل الواحد ، وحقيقة الطبيعة الواحدة ، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء . وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء .
{ أيود أحدكم } الهمزة فيه للإنكار . { أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات } جعل الجنة منهما مع ما فيها من سائر الأشجار تغلبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ، ثم ذكر أن فيها من كل الثمرات ليدل على احتوائها على سائر أنواع الأشجار ، ويجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع . { وأصابه الكبر } أي كبر السن ، فإن الفاقة والعالة في الشيخوخة أصعب ، والواو للحال أو للعطف حملا على المعنى ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر . { وله ذرية ضعفاء } صغار لا قدرة لهم على الكسب . { فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت } عطف على أصابه ، أو تكون باعتبار المعنى . والإعصار ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كعمود ، والمعنى تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة ويضم إليها ما يحبطها كرياء وإيذاء في الحسرة والأسف ، فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة بحال من هذا شأنه ، وأشبههم به من جال بسره في عالم الملكوت ، وترقى بفكره إلى جناب الجبروت ، ثم نكص على عقبيه إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا . { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } أي تتفكرون فيها فتعتبرون بها .
استئناف بياني أثارُه ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثَل حبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثَل جنة برُبوة إلى آخر ما وصف من المَثَلين . ولمَّا أتبع بما يفيد أنّ ذلك إنّما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذًى ، ثم أتبع بالنهي عن أن يُتبعوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، اسْتشرفت نفس السامع لتلقي مَثَل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضُرب المثل لمن كانوا بضدّ حالهم في حالة محمودة .
ضرب الله هذا مثلاً لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء ، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهذا مقابل قوله : { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله } [ البقرة : 265 ] الآية . وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يُرجى منه توفر رَيعها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته ، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء أي صغار إذ الضعيف في « لسان العرب » هو القاصر ، ويطلق الضعيف على الفقير أيضاً ، قال تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً } [ البقرة : 282 ] ، وقال أبو خالد العتَّابي :
لقد زادَ الحياةَ إليّ حُبا *** بَناتي إنَّهُنّ من الضِّعاف
وقد أصابه الكِبَر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ، فهذه أشدّ الأحوال الحرص كقول الأعْشى :
* كجَابيِة الشَّيخِ العِراقي تَفْهَقُ *
فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقتُه في ترقّب لثوابها .
فأصابها إعصار ، أي ريح شديدة تَقلع الشجر والنباتَ ، فيها نار أي شدة حرارة وهي المسمّاة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرَقت الجنةّ أي أشجارها أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة .
والاستفهام في قوله : { أيَوَدُّ } استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } [ الحجرات : 12 ] . والهيأة المشبّهة محذوفة وهي هيأة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى .
روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوماً أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمَ ترون هذه الآية نَزلت : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } الآية ، فقال بعضهم : « الله أعلم » ، فغضب عمر وقال : « قولوا نَعْلَم أو لا نعلم » ، فقال ابن عباس : « في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين » ، فقال عمر : يا ابن أخي قُل ولا تحقِرْ نفسك » ، قال ابن عباس : « ضُربت مثلاً لعَملٍ » ، قال عمر : « أيُّ عمل » ، قال ابن عباس : « لعملٍ » ، قال : صدقتَ ، لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عز وجل إليه الشيطان لما فَني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله .
وقوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } تذييل ، أي كَهذا البيان الذي فيه تقريب المعْقول بالمحسوس بين الله نصحاً لكم ، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة . والتشبيه في قوله : { كذلك يبين الله لكم الآيات } نحو ما في قوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .