تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (266)

الآية 266 وقوله تعالى : { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } الآية{[3327]} ؛ ليس لهذا الخطاب جواب لأن جوابه أن يقول : يود ، أو لا يود ، لكن الخطاب من الله تعالى يخرج على وجوه ثلاثة :

خطاب يفهم مراده وقت قرعه السمع ، وخطاب لا يفهم مراده إلا بعد النظر فيه والتفكير والتدبر ، وهو كقوله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } الآية{[3328]} [ النساء : 82 ] ، وكقوله جل وعلا : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } [ الحشر : 21 ] و { يعقلون } [ البقرة : 164 و . . . ] وخطاب لا يفهم إلا بالسؤال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من له علم في ذلك كقوله تعالى : { فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [ النحل : 43 ] . فإذا كان ما ذكرنا فيتحمل أن ما ترك من الجواب للخطاب إنما ترك للطلب والبحث عنه والتفحص .

ثم إن هذا الخطاب يحتمل أن يكون في أهل النفاق ؛ وذلك أن المنافق يري من نفسه المرافقة لأهل الإسلام في الظاهر ، وهو مخالف لهم في السر ، وعنده أنه يستحق الثواب بذلك وقت الثواب ؛ كان كصاحب الضيعة التي ذكرت في الآية أن صاحبها /49-أ/ يغرس فيها الغرس ، وينبت فيها النبات في حال شبابه وقوته رجاء{[3329]} أن يصل على الانتفاع بها في قوت الحاجة والضعيف{[3330]} ، فإذا بلغ ذلك ، واحتج حيل بينه وبين الانتفاع فيها ، فكذلك المنافق الذي كان دينه لمنافع [ في ]{[3331]} الدنيا وسعة لها ، إذا بلغ على وقت الحاجة حرم ذلك ، وكذلك هذا في الكافر ، لأنه رأى لنفسه النفع بعلمه لوقت يأمله{[3332]} كصاحب الضيعة ، ثم عند بلوغه الحاجة حرم عنه ذلك لاعتراض ما اعترض من الآفة ، وهو{[3333]} كقوله تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء [ حتى إذا جاءه لم يجده شيئا } ]{[3334]} [ النور : 39 ] لأن الكافر بما تدين من الدين إنما يدين لنفع يأمله{[3335]} في الدنيا ، والمؤمن إنما يدين بما يدين لنفع يأمله ، ويطمع في الآخرة ، فرجاء الكافر في غير موضعه ، لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم .

ثم{[3336]} الأمثال التي ضربت بها المؤمنون لأن نظرهم ما في الأمثال من المعنى المدرج والمودع فيه ، لم ينظروا أعينها ، وأما الكفار فإنما ينظرون إلى أعين الأمثال لا إلي ما فيها ، فاستحقروها ، واستعبدت عقولهم ذلك . لذلك قال الله جل وعلا { لآيات لقوم يتفكرون } [ الرعد : 3 ] و{ يعقلون } [ البقرة : 164 و . . . ] ووجه ضرب هذا المثل ، وهو أن الكافر يحرم أجره عند أفقر وأحوج ما كان إليه ، كما حرم هذا نفع بستانه عند أفقر وأحوج ما كان إليه ، حين كبرت سنه ، وضعفت قوته ، ولا حيلة له يومئذ .

وقوله تعالى : { فأصابها إعصار } قال ابن عباس : الإعصار ريح فيها سموم ، وقيل : الإعصار ريح فيها نار تحرق الأشجار ، وقيل : هي الريح تسطع في السماء ، وهي أشد .

قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : في قوله : { أيود أحدكم أن تكون له جنة } الآية : فمعناه ، والله أعلم : أن يكون لا يود أحد أن تكون له جنة ينال منافعها في وقت قوته وغناه بفوته عنها وبغيرها من وجوه المعاش ، ثم يحرم نفعها وقت{[3337]} الحاجة إليها بضعف بدنه وارتكاب مؤن الذرية ، فكذلك لا ترضون{[3338]} من أنفسكم في وقت قوتها وغناها الغفلة عنها لوقت حاجتها إلى الأعمال والاضطرار إلى ثوابها ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون المعنى من ذلك : أي لا تغتروا بظاهر أحوالكم في الدنيا وبما تنالون من المنافع بالذي أظهرهم من موافقة المؤمنين كاغترار من ذكرت بجنته{[3339]} في خاص ما عليه حاله إلى آن : إلى{[3340]} ما أراه الله من عاقبته أنه يرد عنه نهاية ذلك إن لم يكن منه الاغترار في ذلك ، ولكن كان قيامه على ما لا يضيع عنه لتلك الحال ، فيخرج ذا على ضرب المثل للمنافق .

ويحتمل أن يكون ذلك مثلا{[3341]}لمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن{[3342]} لم يؤمن بالبعث ؛ إن الذي ينال بالكفر به من الرياسة والعز كالذي ذكر من صاحب الجنة أنه لا يود ذلك الابتداء بما يعلم تلك العاقبة ، فكذا ما ينبغي لهم ، إذ بين لهم عواقب الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يؤتوا الذي نالوا بعد عملهم بشدة تلك العاقبة ، والله أعلم .

والمثل خرج على غير ذكر الجواب فيه لما قد جرى له البيان لعلمه بالمبعوث نبيا{[3343]} ، أو بما في الحال التي [ كان ]{[3344]} نزول الآية دليل التعريف ، أو بما أراد الله امتحان السامعين بالتأمل في الآية لينال كل ذي فضل فضله ، وليكرم به أهل التدبر في آياته في صرف وجوه من دونهم في الصدور عن آرائهم والاعتماد على إشارتهم ، والله أعلم .

وجملة ذلك أن أفعال ذوي الاختيار تكون للعواقب وما إليه مرجع الفاعل مقصودا في الابتداء ، فبين لمن أغفل عنه بالذي عرف من حيرة المسرور بجنته مما انكشفت له عاقبتها حتى لعله يود أن لم تكن له تلك ، ليكون سروره بما يحمد عاقبته . فعلى هذا الأمر الأفعال التي يغفل عن عواقبها إذا صار صاحبها ، والله الموفق .


[3327]:أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[3328]:أدرج في ط ع تتمة الآية بدل هذه الكلمة.
[3329]:من ط ع، في الأصل وم: جاء.
[3330]:ساقطة من ط ع.
[3331]:من ط ع وم.
[3332]:في النسخ الثلاث: تأمله.
[3333]:في ط ع: وم.
[3334]:من ط ع، في الأصل وم: الآية.
[3335]:في النسخ الثلاث: يتأمله.
[3336]:وضعت الورقة ذات الصفحتين (621 و 622) في ط ع بعد الورقة ذات الصفحتين (637 و 638).
[3337]:في النسخ الثلاث: لوقت.
[3338]:في النسخ الثلاث: ترضوا.
[3339]:في النسخ الثلاث: بجنسه.
[3340]:ساقطة من م.
[3341]:في النسخ الثلاث: مثل.
[3342]:في النسخ الثلاث: ممن.
[3343]:في الأصل: بينا، في ط ع وم: مبينا.
[3344]:ساقطة من النسخ الثلاث.