فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمۡ أَن تَكُونَ لَهُۥ جَنَّةٞ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَابٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ لَهُۥ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ وَأَصَابَهُ ٱلۡكِبَرُ وَلَهُۥ ذُرِّيَّةٞ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعۡصَارٞ فِيهِ نَارٞ فَٱحۡتَرَقَتۡۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (266)

الودّ : الحب للشيء مع تمنيه ، والهمزة الداخلة على الفعل ، لإنكار الوقوع ، والجنة تطلق على الشجر الملتفّ ، وعلى الأرض التي فيها الشجر . والأول أولى هنا لقوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } بإرجاع الضمير إلى الشجر من دون حاجة إلى مضاف محذوف ، وأما على الوجه الثاني ، فلا بدّ من تقديره ، أي : من تحت أشجارها ، وهكذا قوله : { فاحترقت } لا يحتاج إلى تقدير مضاف على الوجه الأول ، وأما على الثاني ، فيحتاج إلى تقديره ، أي : فاحترقت أشجارها ، وخص النخيل ، والأعناب بالذكر مع قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } لكونهما أكرم الشجر ، وهذه الجمل صفات للجنة ، والواو في قوله : { وَأَصَابَهُ الكبر } قيل : عاطفة على قوله : { تَكُونُ } ماض على مستقبل . وقيل : على قوله : { يَوَدُّ } وقيل : إنه محمول على المعنى إذ تكون في معنى كانت . وقيل : إنها واو الحال ، أي : وقد أصابه الكبر ، وهذا أرجح . وكبر السنّ هو : مظنة شدّة الحاجة لما يلحق صاحبه من العجز . عن تعاطي الأسباب .

وقوله : { وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء } حال من الضمير في أصابه أي : والحال أن له ذرية ضعفاء ، فإن من جمع بين كبر السنّ ، وضعف الذرية كان تحسره على تلك الجنة في غاية الشدة . والإعصار : الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، وهي التي يقال لها : الزوبعة ، قاله الزجاج . قال الجوهري : الزوبعة رئيس من رؤساء الجنّ ، ومنه سمي الإعصار زوبعة ، ويقال أمّ زوبعة : وهي ريح يثير الغبار ، ويرتفع إلى السماء ، كأنه عمود ، وقيل : هي ريح تثير سحاباً ذات رعد ، وبرق . وقوله : { فاحترقت } عطف على قوله : { فَأَصَابَهَا } وهذه الآية تمثيل من يعمل خيراً ، ويضم إليه ما يحبطه ، فيجده يوم القيامة عند شدة حاجته إليه لا يسمن ، ولا يغني من جوع بحال من له هذه الجنة الموصوفة ، وهو متصف بتلك الصفة .

وقد أخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : قال عمر يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيم ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } ؟ قالوا : الله أعلم ، قال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يابن أخي قل ، ولا تحقر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعمل ، قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل في المعاصي حتى أغرق عمله . وأخرج ابن جرير عن عمر قال : هذا مثل ضرب لإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، من طرق عن ابن عباس في قوله : { إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ } قال : ريح فيها سموم شديدة .