هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى ، " الودُّ " : هو المحبةُ الكامِلةُ ، والهمزةُ في " أَيَودُّ " للاستفهام ، وهو بمعنى الإِنكارِ ، وإنما قال : " أَيَوَدُّ " ، ولم يقل أَيُرِيد ؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة ، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت ؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام ، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه .
قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } في محلِّ رفعٍ ؛ صفةً لجنة ، أي : كائنة من نخيل . و " نَخِيلٍ " فيه قولان :
والثاني : أنه جمع " نَخْل " الذي هو اسم الجنسِ ، ونحوه : كلب وكَلِيب ، قال الراغب : " سُمِّي بذلك ؛ لأنه منخولُ الأشجارِ ، وصَفِيُّها ؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ " وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين .
والأعنابُ : جمع عِنَبَة ، ويقال : " عِنَباء " مثل " سِيرَاء " بالمدِّ ، فلا ينصرفُ . وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين ، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها ، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم ؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } هذه الجملة في محلِّها وجهان :
أحدهما : أنَّها في محلِّ رفعٍ ؛ صفةً لجنة .
والثاني : أنها في محلِّ نصب ، وفيه أيضاً وجهان ، فقيل : على الحال من " جنَّة " ؛ لأنها قد وُصِفَتْ . وقيل : على أنها خبرُ [ تكون ] نقله مكيّ .
قوله : { لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } جملة من مبتدإٍ ، وخبرٍ ، فالخبر قوله : " لَهُ " و " مِنْ " كُلِّ الثَّمَراتِ " هو المبتدأُ ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر ، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً ؛ فلا بُدَّ من تأويله . واختلف في ذلك :
فقيل : المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه ، تقديره : " له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات " فحُذف الموصوفُ ، وبقيت صفتُه ؛ ومثله قول النَّابغة : [ الوافر ]
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ *** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ{[4545]}
أي : جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ ، وقوله تعالى : { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات :164 ] أي : وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ .
وقيل : " مِنْ " زائدةٌ تقديره : له فيها كلُّ الثمرات ، وذلك عند الأخفش ؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً .
وأمَّا الكُوفيُّون : فيشترطون التنكير ، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب ، وإذا قُلنا بالزيادة ، فالمرادُ بقوله : " كُلِّ الثَّمَرَاتِ " التكثيرُ لا العموم ، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ .
قال أبو البقاء{[4546]} : ولا يجوزُ أَنْ تكونَ " مِنْ " زائدةً ، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ : له فيها كُل الثمراتِ ، وليسَ الأمرُ على هذا ، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب ، فيجوزُ عند الأخفش ؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ " مِنْ " في الواجب .
فإن قيل : كيف عطف " وأَصَابَهُ " على " أيودُّ " ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل ؟
أحدها : أَنَّ الواو للحالِ ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، و " قد " مقدَّرةٌ أي : وقد أصابه ، وصاحبُ الحال هو " أَحَدُكُمْ " ، والعاملُ فيها " يَودُّ " ، ونظيرُها : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة :28 ] ، وقوله تعالى : { وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } [ آل عمران :168 ] أي : وقد كُنتم ، وقد قَعَدوا .
والثاني : أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع ، والتقديرُ " ويُصيبَه الكِبَر " كقوله تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ } [ هود :98 ] أي : يوردهُم . قال الفراء{[4547]} : يجوزُ ذلك في " يَوَدُّ " ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب " أَنْ " ومرةً ب " لو " فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر .
الثالث : أنه حُمِل في العطفِ على المعنى ؛ لأنَّ المعنى : أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ ، فأصابه الكِبَرُ ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي ؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه ، عكسُ الوجه الذي قبله ، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع . واستضعف أبو البقاء{[4548]} هذا الوجه ؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى .
والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال " وقيل : يُقالُ : وَدِدْتُ لو كان كذا ؛ فحُمِل العطفُ على المعنى ، كأنه قيل : أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ ، وأصابَه الكِبَرُ " .
قال أبو حيان : " وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ " أَصَابَهُ " معطوفاً على متعلِّق " أَيَودُّ " وهو " أَنْ تَكُونَ " ؛ لأنه في معنى " لَوْ كانَتْ " ، إذ يقال : أيودُّ أحدكم لو كانت ، وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على " كانت " التي قبلها " لو " ؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ ، وأمَّا " أَصابَه الكِبَرُ " فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ ؛ لأنَّ " أصَابه الكِبَرُ " لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه ، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان " أَيَوَدُّ " استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين ، وهما : كونُ جنةٍ له ، وإصابةُ الكِبَر إياه ، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده ، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما " .
قوله تعالى : { وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ } هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في " وأَصابَه " ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة . وقُرئ " ضِعافٌ " ، وضُعفاءُ ، وضعاف ، منقاسان في ضعيف ، نحو : ظريف ، وظُرَفَاء ، وظِراف ، وشَريف ، وشُرَفاء وشِراف .
قوله : { فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ } هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها ، قاله أبو البقاء{[4549]} . يعني على قوله تعالى : { مِّن نَّخِيلٍ } وما بعده .
وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ ، وأَصابَه الكِبَر ، فأصابها إعصارٌ ؛ لأنه أبلغُ ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء ، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة ، حتى لو قيل : " وَبَل " ، و " كَبِر " ، و " أَعْصَرَتْ " لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ .
والإِعصارُ : الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ ، وتُسَمِّيها العامَّةُ : الزَّوبعة . وقيل : هي الريحُ السَّموم ، سُمِّيت بذلك ؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ ، حكاه المهدوي . وقيل : لأَنها تَعْصِر السَّحابَ ، وتُجمع على أَعَاصير ، قال : [ البسيط ]
أ- وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ *** إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ{[4550]}
والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ ، مذكرٌ ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله : " فيه نارٌ " .
و " نَارٌ " يجوز فيه الوجهان : أعني الفاعلية ، والجارُّ قبلها صفةٌ ل " إِعْصار " والابتدائية ، والجارُّ قبلها خبرها ، والجملة صفةُ " إِعْصارٌ " ، والأول أَولى ؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى ، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة .
قوله : " فَاحْتَرَقَتْ " أي : أحرقها ، فاحترَقَتْ ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي ، وأمَّا " حَرَقَ " من قولهم : " حَرَقَ نابُ الرجُلِ " إذا اشتدَّ غيظهُ ، فيُستعمل لازِماً ، ومتعدِّياً ، قال : [ الطويل ]
ب- أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ *** عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ{[4551]}
رُوي برفع " نَابهُ " ونصبه ، وقوله { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ } إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه .
قال عبيد بن عمير : قال عمر - رضي الله عنه - لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ترون هذه الآية نزلت { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } ؟ قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر - رضي الله عنه - فقال : قولوا : نعلم ، أو لا نعلم ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر - رضي الله عنه - يا ابن أخي ، قل ولا تحقر نفسك ، فقال ابن عباس - رضي الله عنه - : ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر : أيُّ عملٍ ؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لعمل منافقٍ ، ومراءٍ ، قال عمر - رضي الله عنه - : لأي رجل ؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله ، بعث الله له الشيطان ؛ فعمل بالمعاصي ؛ حتى أحرق أعماله{[4552]} .
وقال المفسّرون{[4553]} : هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق ، والمرائي ، يقول : عمله في حسنه كحسن الجنَّة ، ينتفع به ، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة .
{ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } وإنما خصهما بالذكر ؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار ، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها ، وذلك زيادةٌ في الحسن ، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات ، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية ، والمنظر ، وكثرة النَّفع ، والرَّيع ، ولا يمكن الزيادة على ذلك ، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ ، أي : بسبب الصِّغر ، والطفوليَّة ، فإنه إذا صار كبيراً ؛ عجز عن الاكتساب ، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه ، وملبسه ، ومسكنه ، ومن يقوم بخدمته ، وتحصيل مصالحه ، فإذا تزايدت حاجاته ، وتناقصت جهات مكسبه ، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت ، وهو أحوج ما يكون إليها ، وضعف عن إصلاحها ؛ لكبره ، وضعف أولاده عن إصلاحها ؛ لصغرهم ، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده ، ولا أولاده ما يعودون به عليه ، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم ، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق ، والمرائي حيث لا مغيث لهما ، ولا توبة ، ولا إقالة ، ونظير هذه الآية الكريمة { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر :47 ] وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً } [ الفرقان :23 ] .