قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية . قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وقدامة بن مظعون الجمحي ، وسعد بن أبي وقاص ، وجماعة ، كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهاجروا ، ويقولون : يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم " .
قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم .
قوله تعالى : { فلما كتب } فرض .
قوله تعالى : { عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس } ، يعني : يخشون مشركي مكة .
قوله تعالى : { كخشية الله }أي : كخشيتهم من الله .
قوله تعالى : { أو أشد } أكبر .
قوله تعالى : { خشية } وقيل :معناه وأشد خشية .
قوله تعالى : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } ، الجهاد .
قوله تعالى : { أخرتنا إلى أجل قريب } ، يعني : الموت ، أي : هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ؟ واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك ، فقيل : قاله قوم من المنافقين ، لأن قوله : { لم كتبت علينا القتال } ، لا يليق بالمؤمنين . وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم ، قالوه خوفاً وجبناً ، لا اعتقاداً ، ثم تابوا . وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان . وقيل : هم قوم كانوا مؤمنين ، فلما فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن ، وتخلفوا عن الجهاد .
قوله تعالى : { قل } : يا محمد .
قوله تعالى : { متاع الدنيا } أي : منفعتها والاستمتاع بها .
قوله تعالى : { قليل والآخرة } أي : وثواب الآخرة .
قوله تعالى : { لمن اتقى } ، الشرك ومعصية الرسول .
قوله تعالى : { ولا تظلمون فتيلاً } قرأ ابن كثير ، وأبو جعفر ، وحمزة ، والكسائي ، بالياء ، والباقون ( تظلمون ) بالتاء .
أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني ، أخبرنا الأصم ، أنا عبد الله بن محمد بن شاكر ، أنا محمد بن بشر العبدي ، أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، حدثني المستورد بن شداد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ }
كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي : مواساة الفقراء ، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط ، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة ، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد :
منها : أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم ؛ ويبدأ بالأهم فالأهم ، والأسهل فالأسهل .
ومنها : أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام ، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم .
وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال ، غير اللائق فيها ذلك ، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام ، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك ، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا : { رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله ، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال ، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره ، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا : { لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر ، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها ، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها ، بل يكون قليل الصبر . ثم إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي : التمتع بلذات الدنيا وراحتها قليل ، فتحمل الأثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على النفوس ويخف عليها ؛ لأنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها لا يطول لبثها هان عليها ذلك ، فكيف إذا وازنت بين الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير منها ، في ذاتها ، ولذاتها وزمانها ، فذاتها -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه- " أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . ولذاتها صافية عن المكدرات ، بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من تصور لذة ، فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } وقال الله على لسان نبيه : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " .
وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما يقترن بها من أنواع الآلام والهموم والغموم ، لم يكن لذلك نسبة بوجه من الوجوه .
وأما زمانها ، فإن الدنيا منقضية ، وعمر الإنسان بالنسبة إلى الدنيا شيء يسير ، وأما الآخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها ، فإذا فكّر العاقل في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور ، عرف ما هو أحق بالإيثار ، والسعي له والاجتهاد لطلبه ، ولهذا قال : { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي : اتقى الشرك ، وسائر المحرمات . { وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا } أي : فسعيكم للدار الآخرة ستجدونه كاملاً موفرًا غير منقوص منه شيئًا .
إن السياق يمضي - بعد هذا - إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين - قيل إن بعضهم من المهاجرين ، الذين كانت تشتد بهم الحماسة - وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد - ليؤذن لهم في قتال المشركين . حيث لم يكن مأذونا لهم - بعد في قتال ، للحكمة التي يعلمها الله ؛ والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد . . فلما كتب عليهم القتال ، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة ، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية . . إذا هم - كما يصورهم القرآن –
( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ! وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ! لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا : هذه من عند الله . وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول [ ص ] : هذه من عندك . وممن يقولون : طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول [ ص ] بيت طائفة منهم غير الذي تقول ) . وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . . .
يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء ، في الأسلوب القرآني ؛ الذي يصور حالة النفس ، كما لو كانت مشهدا يرى ويحس ! ويصحح لهم - ولغيرهم - سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة ، والأجل والقدر ، والخير والشر ، والنفع والضرر ، والكسب والخسارة ، والموازين والقيم ؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة :
( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ؟ قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت . ولو كنتم في بروج مشيدة . وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ ما أصابك من حسنة فمن الله . وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا ، وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ؛ من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ) .
( ويقولون : طاعة . فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول - والله يكتب ما يبيتون - فأعرض عنهم ، وتوكل على الله ، وكفى بالله وكيلا . أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) .
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم . . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
هؤلاء الذين تتحدث عنهم هذه المجموعات الأربع من الآيات ؛ قد يكونون هم أنفسهم الذين تحدثت عنهم مجموعة سابقة في هذا الدرس : ( وإن منكم لمن ليبطئن ) . . الآيات . . ويكون الحديث كله عن تلك الطائفة من المنافقين ؛ التي تصدر منها هذه الأعمال وهذه الأقوال كلها .
وقد كدنا نرجح هذا الرأي ؛ لأن ملامح النفاق واضحة ، فيما تصفه هذه المجموعات كلها . وصدور هذه الأعمال وهذا الأقوال عن طوائف المنافقين في الصف المسلم ، أمر أقرب إلى طبيعتهم ، وإلى سوابقهم كذلك . وطبيعة السياق القرآني شديدة الالتحام بين الآيات جميعا . .
ولكن المجموعة الأولى من هذه المجموعات التي تتحدث عن الذين : [ قيل لهم : كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . فلما كتب عليهم القتال . . الآيات ] هي التي جعلتنا نتردد في اعتبار الآيات كلها حديثا عن المنافقين - وإن بدت فيها صفات المنافقين وبدت فيها لحمة السياق واستطراده - وجعلتنا نميل إلى اعتبار هذه المجموعة واردة في طائفة من المهاجرين - ضعاف الإيمان غير منافقين - والضعف قريب الملامح من النفاق - وأن كل مجموعة أخرى من هذه المجموعات الأربع ربما كانت تصف طائفة بعينها من طوائف المنافقين ، المندسين في الصف المسلم . وربما كلها وصفا للمنافقين عامة ؛ وهي تعدد ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال .
والسبب في وقوفنا هذا الموقف أمام آيات المجموعة الأولى ؛ وظننا أنها تصف طائفة من المهاجرين الضعاف الإيمان ؛ أو الذين لم ينضج بعد تصورهم الإيماني ؛ ولم تتضح معالم الاعتقاد في قلوبهم وعقولهم . .
السبب هو أن المهاجرين هم الذين كان بعضهم تأخذه الحماسة والاندفاع ، لدفع أذى المشركين - وهم في مكة - في وقت لم يكن مأذونا لهم في القتال - فقيل لهم : ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) . .
وحتى لو أخذنا في الاعتبار ما عرضه أصحاب بيعة العقبة الثانية الاثنان والسبعون على النبي [ ص ] من ميلهم على أهل منى - أي قتلهم - لو أمرهم الرسول [ ص ] ورده عليهم : " إننا لم نؤمر بقتال " . . فإن هذا لا يجعلنا ندمج هذه المجموعة من السابقين من الأنصار - أصحاب بيعه العقبة - في المنافقين ، الذين تتحدث عنهم بقية الآيات . ولا في الضعاف الذين تصفهم المجموعة الأولى . فإنه لم يعرف عن هؤلاء الصفوة نفاق ولا ضعف ؛ رضي الله عنهم جميعا .
فأقرب الاحتمالات هو أن تكون هذه المجوعة واردة في بعض من المهاجرين ، الذين ضعفت نفوسهم - وقد أمنوا في المدينة وذهب عنهم الأذى - عن تكاليف القتال . . وألا تكون بقية الأوصاف واردة فيهم ، بل في المنافقين . لأنه يصعب علينا - مهما عرفنا من ظواهر الضعف البشري - أن نسم أي مهاجر من هؤلاء السابقين بسمة رد السيئة إلى الرسول [ ص ] دون الحسنة ! أو قول الطاعة وتبييت غيرها . . وإن كنا لا نستبعد أن توجد فيهم صفة الإذاعة بالأمر من الأمن أو الخوف . لأن هذه قد تدل على عدم الدربة على النظام ، ولا تدل على النفاق . .
والحق . . أننا نجد أنفسنا - أمام هذه الآيات كلها - في موفق لا نملك الجزم فيه بشيء . والروايات الواردةعنها ليس فيها جزم كذلك بشيء . . حتى في آيات المجموعة الأولى . التي ورد أنها في طائفة من المهاجرين ؛ كما ورد أنها في طائفة من المنافقين !
ومن ثم نأخذ بالأحوط ؛ في تبرئة المهاجرين من سمات التبطئة والانخلاع مما يصيب المؤمنين من الخير والشر . التي وردت في الآيات السابقة . ومن سمة إسناد السيئه للرسول [ ص ] دون الحسنة ، ورد هذه وحدها إلى الله ! ومن سمة تبييت غير الطاعة . . وإن كانت تجزئة سياق الآيات على هذا النحو ليست سهلة على من يتابع السياق القرآني ، ويدرك - بطول الصحبة - طريقة التعبير القرآنية ! ! ! والله المعين .
( ألم تر إلى الذين قيل لهم : كفوا أيديكم ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . . فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! قل : متاع الدنيا قليل . والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ً . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . . .
يعجب الله - سبحانه - من أمر هؤلاء الناس ؛ الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال ويستعجلونه وهم في مكة ، يتلقون الأذى والاضطهاد والفتنة من المشركين . حين لم يكن مأذونا لهم في القتال للحكمة التي يريدها الله . فلما أن جاء الوقت المناسب الذي قدرة الله ؛ وتهيأت الظروف المناسبة وكتب عليهم القتال - في سبيل الله - إذا فريق منهم شديد الجزع ، شديد الفزع ، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم - وهم ناس من البشر - كخشية الله ؛ القهار الجبار ، الذي لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد . . ( أو أشد خشية ) ! ! وإذا هم يقولون - في حسرة وخوف وجزع - ( ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ ) . . وهو سؤال غريب من مؤمن . وهو دلالة على عدم وضوح تصوره لتكاليف هذا الدين ؛ ولوظيفة هذا الدين أيضا . . ويتبعون ذلك التساؤل ، بأمنية حسيرة مسكينة ! ( لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) وأمهلتنا بعض الوقت ، قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف !
إن أشد الناس حماسة واندفاعا وتهورا ، قد يكونون هم أشد الناس جزعا وانهيارا وهزيمة عندما يجد الجد ، وتقع الواقعة . . بل إن هذه قد تكون القاعدة ! ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالبا ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف . لا عن شجاعة واحتمال وإصرار . كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال . قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة ؛ فتدفعهم قلة الاحتمال ، إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل . دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار . . حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا ، وأشق مما تصوروا . فكانوا أول الصف جزعا ونكولا وانهيارا . . على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم ، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت ؛ ويعدون للأمر عدته ، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة ، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف . فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته . . والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذا ذاك ضعافا ، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور ! وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالا ؛ وأي الفريقين أبعد نظرا كذلك !
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف ، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه ؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة . فيندفع يطلب من الرسول [ ص ] أن يأذن له بدفع الأذى ، أو حفظ الكرامة . والرسول [ ص ] يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار ، والتربيةوالإعداد ، وارتقاب الأمر في الوقت المقدر المناسب . فلما أن أمن هذا الفريق في المدينة ؛ ولم يعد هناك أذى ولا إذلال ، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص ؛ لم يعد يرى للقتال مبررا ؛ أو على الأقل لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة !
( فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ، وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! ) .
وقد يكون هذا الفريق مؤمنا فعلا . بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى ! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا . فالإيمان الذي لم ينضج بعد ؛ والتصور الذي لم تتضح معالمه ؛ ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدين في الأرض - وأنها أكبر من حماية الأشخاص ، وحماية الأقوام ، وحماية الأوطان ، إذ أنها في صميمها إقرار منهج الله في الأرض ، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم ؛ وإنشاء قوة عليا في هذه الأرض ذات سلطان ، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله ؛ ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أي مكان على سطح الأرض ؛ ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حريته - بأي لون من ألوان الفتنة - ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو - وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه . . وإذن فلم يكن الأمن في المدينة - حتى على فرض وجوده كاملا غير مهدد - لينهي مهمة المسلمين هناك ؛ وينهى عن الجهاد !
الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس إلى إخراج ذاتها من الأمر ؛ والاستماع فقط إلى أمر الله وأعتباره هو العلة والمعلول ، والسبب والمسبب ، والكلمة الأخيرة - سواء عرف المكلف حكمتها أم لم تتضح له - والتصور الذي لم تتضح معالمه بعد ليعرف المؤمن مهمة هذا الدين في الأرض ؛ ومهمته هو - المؤمن - بوصفه قدرا من قدر الله ، ينفذ به الله ما يشاؤه في هذه الحياة . . لا جرم ينشأ عنه مثل هذا الموقف ، الذي يصوره السياق القرآني هذا التصوير ؛ ويعجب منه هذا التعجيب ! وينفر منه هذا التنفير .
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين - في مكة - بالانتصار من الظلم ؛ والرد على العدوان ؛ ودفع الأذى بالقوة . . وكثيرون منهم كان يملك هذا ؛ فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين . . مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة . .
أما حكمة هذا ، والأمر بالكف عن القتال ، وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصبر والاحتمال . . حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق ، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته ؛ فيفتن عن دينه . وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته . .
أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها . لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة ؛ ونفرض على أوامره أسبابا وعللا ، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية . أو قد تكون ، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها ، ويعلم - سبحانه - أن فيها الخير والمصلحة . . وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف . أو أي حكم في شريعة الله - لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما - فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف ؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف ، مما يدركه عقله ويحسن فيه . . فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال . ولا يجزم - مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله - بأن ما رآه هو حكمة ؛ هو الحكمة التي أرادها الله . . نصا . . وليس وراءها شيء ، وليس من دونها شيء ! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله . ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف فيالطبيعة والحقيقة .
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة . . نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب . . على أنه مجرد احتمال . . وندع ما وراءه لله . لا نفرض على أمره أسبابا وعللا ، لا يعلمها إلا هو . . ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح !
إنها أسباب . . اجتهادية . . تخطى ء وتصيب . وتنقص وتزيد . ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله . وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان :
" أ " ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد ؛ في بيئة معينة ، لقوم معينين ، وسط ظروف معينة . ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات ، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به . ليخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به ، محورا لحياة في نظره ، ودافع الحركة في حياته . . وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ؛ فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج . ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته . . وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته ؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي ، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة ؛ المترقي المتحضر ، غير الهمجي أو القبلي .
" ب " وربما كان ذلك أيضا ، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ ، في مثل بيئة قريش ؛ ذات العنجهية والشرف ؛ والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة - إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة ، كثارات العرب المعروفة ، التي أثارت حرب داحس والغبراء ، وحرب البسوس - أعواما طويلة ، تفانت فيها قبائل برمتها - وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام . فلا تهدأ بعد ذلك أبدا . ويتحول الإسلام من دعوة ، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية ، وهو في مبدئه ، فلا تذكر أبدا !
" ج " وربما كان ذلك أيضا ، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت . فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة ، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم . إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد ، يعذبونه هم ويفتنونه و " يؤدبونه " ! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت . . ثم يقال : هذا هو الإسلام ! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال ! فقد كانت دعاية قريش في الموسم ، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة : إن محمدا يفرق بين الوالد وولده ؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته ! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد ، والمولى بقتل الولي . . في كل بيت وكل محلة ؟
" د " وربما كان ذلك أيضا ، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم ، ويعذبونهم ويؤذونهم ؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص ، بل من قادته . . ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء ؟ !
" ه " وربما كان ذلك ، أيضا ، لأن النخوة العربية ، في بيئة قبلية ، من عادتها أن تثور للمظلوم ، الذي يحتمل الأذى ، ولا يتراجع ! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم . . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة ، ورأى في ذلك عارا على العرب ! وعرض عليه جواره وحمايته . . . وآخر هذه الظواهرنقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب ، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة . . بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل ، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة ؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي !
" و " وربما كان ذلك أيضا ، لقلة عدد المسلمين حينذاك ، وانحصارهم في مكة . حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة . أو بلغت أخبارها متناثرة ؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد ، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها ، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف . . ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة ، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة - حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم - ويبقى الشرك ، وتنمحي الجماعة المسلمة . ولم يقم في الأرض للإسلام نظام ، ولا وجد له كيان واقعي . . وهو دين جاء ليكون منهج حياة ، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة .
" ز " في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها ، والأمر بالقتال ودفع الأذى . لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما - وقتها - ومحققا . . هذا الأمر الأساسي هو " وجود الدعوة " . . وجودها في شخص الداعية [ ص ] وشخصه في حماية سيوف بني هاشم ، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع ! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم ، إذا هي امتدت يدها إلى محمد [ ص ] فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية . . وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن - في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي ، ولا يكتمها ، ولا يخفيها ، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها ، في ندوات قريش في الكعبة ، ومن فوق جبل الصفا ؛ وفي اجتماعات عامة . . ولا يجرؤ أحد على سد فمه ؛ ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله ! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله ؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه ؛ ويسكت عن بعضها . وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف . وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت . وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا . أي أن يجاملهم فيجاملوه ؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته ، لم يدهن . . وعلى الجملة كان للدعوة " وجودها " الكامل ، في شخص رسول الله [ ص ] محروسا بسيوف بني هاشم - وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة . . ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة ، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها ، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة .
هذه الاعتبارات - كلها - فيما نحسب - كانت بعض ما اقتضت حكمة الله - معه - أن يأمر المسلمين بكف أيديهم . وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . . لتتم تربيتهم وإعدادهم ، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة ؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة ، في الوقت المناسب . وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها ، فلا يكون لذواتهم فيها حظ . لتكون خالصة لله . وفي سبيل الله . . والدعوة لها " وجودها " وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة . . .
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة ، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال :
( فلما كتب عليهم القتال ، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . وقالوا : ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ! ) .
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع ، وبين الرجال المؤمنين ، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة ؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد - على كل ما فيها من مشقة - بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا . ولكن في موضعها المناسب . فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية . أما الحماسة قبل الأمر ، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور ؛ يتبخر عند مواجهة الخطر !
وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني :
( قل : متاع الدنيا قليل ، والآخرة خير لمن اتقى ، ولا تظلمون فتيلا . أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .
إنهم يخشون الموت ، ويريدون الحياة . ويتمنون في حسرة مسكينة ! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت ؛ ومد لهم - شيئا - في المتاع بالحياة !
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها ؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل . .
متاع الدنيا كله . والدنيا كلها . فما بال أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين ؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير . إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟ ! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام ، أو أسابيع ، أو شهور ، أو سنين . ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل ! ؟
فالدنيا - أولا - ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة . . إنها مرحلة . . ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع - فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير – فهي ( خير ) . . ( خير لمن اتقى ) . . وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها . التقوى لله . فهو الذي يتقى ، وهو الذي يخشى . وليس الناس . . الناس الذين سبق أن قال : إنهم يخشونهم كخشية الله - أو أشد خشية ! - والذي يتقي الله لا يتقي الناس . والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا . فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد ؟
فلا غبن ولا ضير ولا بخس ؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا . فهناك الآخرة . وهناك الجزاء الأوفى ؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا !
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه - مع هذا كله - إلى أيام تطول به في هذه الأرض ! حتى وهو يؤمن بالآخرة ، وهو ينتظر جزاءها الخير . . وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة !
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } أي عن القتال . { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } واشتغلوا بما أمرتم به . { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله } يخشون الكفار أن يقتلوهم كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه ، وإذا للمفاجأة جواب لما وفريق مبتدأ منهم صفته ويخشون خبره وكخشية الله من إضافة المصدر إلى المفعول ، وقع موقع المصدر أو الحال من فاعل يخشون على معنى ، يخشون الناس مثل أهل خشية الله منه . { أو أشد خشية } عطف عليه إن جعلته حالا وإن جعلته مصدرا فلا ، لأن أفعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل هو معطوف على اسم الله تعالى أي : وكخشية الله تعالى أو كخشية أشد خشية منه ، على الفرض اللهم إلا أن تجعل الخشية ذات خشية كقولهم : جد جده على معنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله تعالى ، أو خشية أشد خشية من خشية الله . { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } استزادة في مدة الكف عن القتال حذرا عن الموت ، ويحتمل أنهم ما تفوهوا به ولكن قالوه في أنفسهم فحكى الله تعالى عنهم . { قل متاع الدنيا قليل } سريع التقضي { والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا } أي ولا تنقصون أدنى شيء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه ، أو من آجالكم المقدرة . وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي { ولا يظلمون } لتقدم الغيبة .