التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ) .

ورد في سبب نزولها أن فريقا من المسلمين في مكة كانوا قد رجوا النبي ليأذن لهم بالجهاد فيردوا المشركين ويدفعوهم عن أنفسهم بعد ما لاقوا منهم أذى وعدوانا مع أن الجهاد حينئذ لم يكن مفروضا ؛ إذ كان المسلمون مأمورين بالصفح والصبر وفعل العبادات كالصلاة والزكاة وغيرها . فلما أن بات الجهاد فرضا على المسلمين من بعد الهجرة تخلف هؤلاء الذين كانوا يبدون في مكة حماسة ويطالبون بمحاربة مشركي مكة . لقد نكصوا على أعقابهم وانكشفوا عن خذلان وتخوّف حتى لجوا إلى النبي ( ص ) بالشكوى والاضطراب . على أن الذي يراود الذهن هنا أن هذه الفريق من الناس الذين كانوا يتمنون في مكة أن يؤذن لهم بالجهاد ورد المشركين لم يكونوا من المنافقين ولا المؤمنين حقا . أما أن يكونوا منافقين فلا يتصور ذلك ؛ إذ لا وجود للنفاق والمنافقين في تلك الفترة العصيبة التي لاقى فيها المسلمون العنت والعذاب ولا يكون النفاق إلا حيث الشوكة والمنعة للإسلام{[791]} .

وأما أن يكونوا من المؤمنين من أمثال عبد الرحمن بن عوف وأصحاب له كما قيل فذلك مالا يتصور أيضا ولا يلج حيّز المعقول . إن المؤمنين المخلصين في مرتبة عبد الرحمن بن عوف لا يعقل أن يتمنوا الجهاد حتى إذا بات ذلك مفروضا كفوا وامتنعوا وأبدوا تخاذلا وجبنا ثم خشوا الناس أشد من خشيتهم لله !

إن الذي يمكن تصوره أن هؤلاء كانوا من ضعاف الإيمان الذين كانوا يغمرهم الخوف والتلجلج والذعر . فهم ليسوا من المسلمين الثابتين الأقوياء ، الذين لا تأخذهم في دين الله صيحة حرب ولا قتال للأعداء .

قوله : ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال . . ) المقصود بواو الجماعة في قوله : ( وقالوا ) هم ضعاف الإيمان من المسلمين الذين خشوا لقاء العدوّ مثل خشيتهم لله أو أشد خشية فقد تمنّوا كذلك أن لو لم يكتب الله عليهم القتال . وقالوا : ( لولا أخرتنا ) لولا بمعنى هلا وهي أداة تحضيض . فهم يتمنون على الله أشد التمني أن لو أخر عنهم فريضة الجهاد إلى حين آخر . وذلك هو شأن الضعاف المهزومين الذين يرغبون في التسويف في مثل هذه الأمور أو الإبطاء فيها ليمتد بها الزمن فيطويها النسيان . لكن المؤمن المتقي يتورع عن التسويف في ما افترض الله عليه فلا يلبث أن يخف لطاعة الله أو يسارع للاعتصام بحبله المتين من غير مداهنة أو مصانعة أو تسويف .

قوله : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى . . . ) متاع مبتدأ ، وقليل خبره . وهنا يأمر الله نبيه ( ص ) أن يبسط للناس هوان الدنيا وبساطتها ، وأنها مجرد عرض زائل يستمتع به الناس إلى حين من الزمان يمر مرا سريعا لتنتهي بعدها السالفة إلى حيث المطاف الأخير الذي ينتظر كل كائن على وجه هذه الأرض . . الموت .

وما أعظم حديث النبي الكريم في هذا الصدد ؛ إذ يرسم صورة تكشف عن حقيقة الحياة الدنيا وأنها حطام مندثر يستمتع به البشر في غمرة اللهو والمرح إلى أجل محدود . يقول عليه الصلاة والسلام : " مالي وللدنيا ، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها " {[792]} .

وإذا ترسخ هذا الاعتبار في التصوّر أدركنا في يقين لا يخالطه شك أن الآخرة لهي خير وأفضل لما تتصف به من حسن وبقاء مستديم . وتلك حقيقة يؤمن بها المتّقون الذين يخشون الله ولا يخشون أحدا سواه والذين يزنون الأمور على الدوام بميزان الله ، فلا يجنحون إلى الدنيا بحطامها ومتاعها تحت مطارق الشهوات العاتية الحامية .

وفي اليوم الآخر تنكشف السرائر والخبايا لتقف البشرية حاسرة أمام الخالق القاهر الديان لتناقش الحساب ( ولا تظلمون فتيلا ) أي لا يكون هناك ظلم ولو بمقدار الفتيل وهو الخيط على لفافة التمرة التي تحيط بالنواة . أو ما يتحصل من أوساخ مفتولة تظهر على الكفين إذا تفاركا .


[791]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 111 وتفسير الطبري جـ 4 ص 108.
[792]:- أخرج مثله أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن مسعود.