جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدّقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك وقالوا ما أخبر عنهم في كتابه.
فتأويل قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ}: ألم تر بقلبك يا محمد فتعلم إلى الذين قيل لهم من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال: كفوا أيديكم، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم. {وَأقِيمُوا الصّلاةَ}: وأدوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها. {وآتُوا الزّكاةَ}: وأعطوا الزكاة أهلها، الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرا لأبدانكم وأموالكم، كرهوا ما أمروا به من كفّ الأيدي عن قتال المشركين، وشقّ ذلك عليهم.
{فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ}: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم، {إذَا فرِيقٌ مِنْهُمْ}: جماعة منهم {يَخْشَوْنَ النّاسَ}: يخافون الناس أن يقاتلوهم، {كخَشْيَةِ اللّهِ أوْ أشَدّ خَشْيَةً} أو أشدّ خوفا {وَقَالُوا} جزعا من القتال الذي فرض الله عليهم: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ}: لم فرضت علينا القتال، ركونا منهم إلى الدنيا، وإيثارا للدعة فيها والخَفْض على مكروه لقاء العدوّ، ومشقة حربهم وقتالهم، {لَوْلا أخّرْتَنا} يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ}: إلى أن يموتوا على فرشهم وفي منازلهم.
وبنحو الذي قلنا إن هذه الاَية نزلت فيه قال أهل التأويل. ذكر الاَثار بذلك...
عن قتادة: قوله: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أيْدِيَكُمْ وأقِيمُوا الصّلاةَ} فقرأ حتى بلغ: {إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرعوا إلى القتال، فقالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم: ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: «لم أؤمَرْ بذَلِكَ». فلما كانت الهجرة وأمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ والاَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}.
وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها في اليهود... نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
{قُلْ مَتاعُ الدّنْيا قَلِيلٌ}: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين قالوا {رَبّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنا القِتالَ لَوْلا أخّرْتَنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ} عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية، وما فيها فان. {والاَخِرَةُ خَيْرٌ}: ونعيم الاَخرة خير، لأنها باقية، ونعيمها باق دائم. وإنما قيل: والآخرة خير ومعنى الكلام ما وصفت من أنه معنى به نعيمها، لدلالة ذكر الآخرة بالذي ذكرت به على المعنى المراد منه. {لمن اتّقَى}: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك.
{وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلاً¹.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
واختلفوا في قوله تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} فقال قوم: نزلت في المنافقين لأن قوله {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} أي لِمَ فرضت، لايليق بالمؤمنين، وكذلك الخشية من غير الله. وقال بعضهم: بل نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان منهم الكامل الذي لا يخرجه إيمانه من غلبة الطبع عليه. ومنهم من ينقص عن تلك الحالة فينفّر نفسه عمّا يؤمر به فيما يلحقه فيه الشدة. وقيل: نزلت في قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن، وتخلفوا عن الجهاد...
ويدلّ عليه إن الله لا يتعبد الكافر والمنافق بالشرائع بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع فلما نافقوا نبّه الله على أحوالهم. وقد قال الله مخبراً عن المنافقين {بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ألم تر) معناه ألم ينته علمك إلى هؤلاء تعجيبا من ذلك. ولو قال: ألم تر هؤلاء أو ألم تعلم هؤلاء لم يظهر فيه معنى التعجب منهم كما يظهر ب (إلى)، لأنها تؤذن بحال بعيدة قد لا ينتهي إليها، لبعدها، لما فيها من العجب الذي يقع بها...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاُ}. مَكَّنَكَ من الدنيا ثم قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} فلم يَعُدَّها شيئاً لك ثم لو تَصَدَّقْتَ منها بِشقِّ تمرةٍ لتَخَلَّصْتَ من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم. واستقلالُ الكثير من نفسك -لأجل حبيبك- أقوى أمارات صُحْبتك. ويقال لما زَهَّدَهم في الدنيا قلَّلَها في أعينهم ليهون عليهم تركها. ويقال قل متاعُ الدنيا بجملتها قليلٌ، والذي هو نصيبك منها أقلُّ من القليل... وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخَسُّ من الخسيس مَنْ رَضِيَ بالخسيس بدلاً عن النفيس. وقد اخْتَلَعَ المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولاً: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ} فأحفظهم عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: {وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} أي كفوها عن القتال وذلك أن المسلمين كانوا مكفوفين عن مقاتلة الكفار ما داموا بمكة، وكانوا يتمنون أن يؤذن لهم فيه {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بالمدينة كع فريق منهم لا شكاً في الدين ولا رغبة عنه، ولكن نفوراً من الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت {كَخَشْيَةِ الله} من إضافة المصدر إلى المفعول...
{لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادة في مدة الكف، واستمهال إلى وقت آخر، كقوله: {لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 15].
{وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}: ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على مشاق القتال فلا ترغبوا عنه.
دلت الآية على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على إيجاب الجهاد، وهذا هو الترتيب المطابق لما في العقول، لأن الصلاة عبارة عن التعظيم لأمر الله، والزكاة عبارة عن الشفقة على خلق الله، ولا شك أنهما مقدمان على الجهاد... المسألة الرابعة: ظاهر قوله: {أو أشد خشية} يوهم الشك، وذلك على علام الغيوب محال. وفيه وجوه من التأويل:
الأول: المراد منه الإبهام على المخاطب، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة، وذلك لأن كل خوفين فأحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد فبين تعالى بهذه الآية أن خوفهم من الناس ليس أنقص من خوفهم من الله، بل بقي إما أن يكون مساويا أو أزيد، فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه، بل يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطب.
الثاني: أن يكون «أو» بمعنى الواو، والتقدير: يخشونهم كخشية الله وأشد خشية، وليس بين هذين القسمين منافاة، لأن من هو أشد خشية فمعه من الخشية مثل خشيته من الله وزيادة. الثالث: أن هذا نظير قوله: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} يعني أن من يبصرهم يقول هذا الكلام، فكذا ههنا والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال}.
واعلم أن هؤلاء القائلين إن كانوا مؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله، لكن جزعا من الموت وحبا للحياة، وإن كانوا منافقين فمعلوم أنهم كانوا منكرين لكون الرب تعالى كاتبا للقتال عليهم، فقالوا ذلك على معنى أنه تعالى كتب القتال عليهم في زعم الرسول عليه الصلاة والسلام وفي دعواه، ثم قالوا: {لولا أخرتنا إلى أجل قريب} وهذا كالعلة لكراهتهم لإيجاب القتال عليهم، أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم فقال: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى} وإنما قلنا: إن الآخرة خير لوجود:
الأول: إن نعم الدنيا قليلة، ونعم الآخرة كثيرة.
والثاني: إن نعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبدة.
والثالث: إن نعم الدنيا مشوبة بالهموم والغموم والمكاره، ونعم الآخرة صافية عن الكدورات.
والرابع: إن نعم الدنيا مشكوكة فإن أعظم الناس تنعما لا يعرف أنه كيف يكون عاقبته في اليوم الثاني، ونعم الآخرة يقينية، وكل هذه الوجوه تجب رجحان الآخرة على الدنيا، إلا أن هذه الخيرية إنما تحصل للمؤمنين المتقين، فلهذا المعنى ذكر تعالى هذا الشرط وهو قوله: {لمن اتقى} وهذا هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما عرفهم هذه المفاوز الأخروية والمفاخر الدنيوية، وختم بما ينهض الجبان، ويقوي الجنان، ورغبهم بما شوق إليه من نعيم الجنان؛ عجب من حال من توانى بعد ذلك واستكان، فقال تعالى مقبلاً بالخطاب على أعبد خلقه وأطوعهم لأمره: {ألم تر} وأشار إلى أنهم بمحل بعد عن حضرته تنهيضاً لهم بقوله: {إلى الذين قيل لهم} أي جواباً لقولهم: إنا نريد أن نبسط أيدينا إلى الكفار بالقتال لأن امتحاننا بهم قد طال {كفوا أيديكم} أي ولا تبسطوها إليهم فإنا لم نأمر بهذا {وأقيموا الصلاة} أي صلة بالخالق واستنصاراً على المشاقق {وأتوا الزكاة} منماة للمال وطهرة للأخلاق وصلة للخلائق {فلما كتب عليهم القتال} أي الذي طلبوه وهم يؤمرون بالصفح، كتابة لا تنفك إلى آخر الدهر {إذا فريق منهم} أي ناس تلزم عن فعلهم الفرقة، فأحبوا هذه الكتب بأنهم {يخشون الناس} أي الذين هم مثلهم، أن يضروهم، والحال أنه يقبح عليهم أن يكونوا أجراً منهم وهم ناس مثلهم {كخشية الله} أي مثل ما يخشون الله الذي هو القادر لا غيره.
ولما كان كفهم عن القتال شديداً يوجب لمن يراه منهم أن يظن بهم من الجبن ما يتردد به في الموازنة بين خوفهم من الناس وخوفهم من الله، عبر بأداة الشك فقال: {أو أشد خشية} أي أو كانت خشيتهم لهم عند الناظر لهم أشد من خشيتهم من الله، فقد أفاد هذا أن خوفهم من الناس ليس بأقل من خوفهم من الله جزماً بل إما مثله أو أشد منه؛ وقد يكون الإبهام للتفاوت بالنسبة إلى وقتين، فيكون خوفهم منه في وقت متساوياً، وفي آخر أزيد، فهو متردد بين هذين الحالين؛ ويجوز أن يكون ذلك كناية عن كراهتهم القتال في ذلك الوقت وتمنيهم لتأخيره إلى وقت ما.
وأيد ما تقدم من الظن بقوله ما هو كالتعليل للكراهة: {وقالوا} جزعاً من الموت أو المتاعب -إن كانوا مؤمنين، أو اعتراضاً- إن كانوا منافقين، على تقدير صحة ما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم {ربنا} أي أيها المحسن إلينا القريب منا {لم كتبت علينا القتال} أي ونحن الضعفاء {لولا} أي هلا {أخرتنا} أي عن الأمر بالقتال {إلى أجل قريب} أي لنأخذ راحة مما كنا فيه من الجهد من الكفار بمكة، "وسبب نزولها أن عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص وجماعة رضي الله عنهم كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيراً قبل أن يهاجروا، ويقولون: يا رسول الله! إئذن لنا في قتالهم فإنهم قد آذونا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم، فإني لم أومر بقتالهم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله سبحانه وتعالى بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم "حكاه البغوي عن الكلبي، وحكاه الواحدي عنه بنحوه، وروي بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن عبد الرحمن ابن عوف وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله! كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة، فقال:"إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم "فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله عز وجل {ألم إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم}" الآية. وهذا يفهم أن نسبة القول إليهم إنما هي حالهم في التأخر عن المبادرة إلى القتال حال من يقول ذلك، فالمراد من الآية إلهابهم إلى القتال وتهييجهم، ليس غير.
ولما عجب عليه الصلاة والسلام منهم إنكاراً عليهم كان كأنه قال: فما أقول لهم؟ أمره بوعظهم وتضليل عقولهم وتفييل آرائهم بقوله: {قل متاع الدنيا قليل} أي ولو فرض أنه مدّ في آجالكم إلى أن تملوا الحياة، فإن كل منقطع قليل، مع أن نعيمها غير محقق الحصول، وإن حصل كان منغصاً بالكدورات {والآخرة خير لمن اتقى} أي لأنها لا يفنى نعيمها مع أنه محقق ولا كدر فيه، وهي شر من الدنيا لمن لم يتق، لأن عذابها طويل لا يزول {ولا تظلمون فتيلاً} أي لا في دنياكم بأن تنقص آجالكم بقتالكم، ولا أرزاقكم باشتغالكم، ولا في آخرتكم بأن يضيع شيء من ثوابكم على ما تنالونه من المشقة، لأنه سبحانه وتعالى حكيم لا يضع شيئاً في غير موضعه، ولا يفعل شيئاً إلا على قانون الحكمة، فما لكم تقولون قول المتهم: لم فعلت؟ [أتخشون الظلم في إيجاب ما لم يجب عليكم وفي نقص الرزق والعمر؟ قال تعالى عن ذلك بل هو مع أن سنته] العدل وله أن يفعل ما شاء، لا يسئل عما يفعل} [الأنبياء: 23] يحسن ويعطي من تقبل إحسانه أتم الفضل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
استنكر الأستاذ نزول الآية في بعض كبار الصحابة المشهود لهم بالجنة وما استحقوها إلا بقوة الإيمان، والعمل والإذعان، وجعلها في المبطئين على الوجه الذي اختاره فيهم وهو أنهم ضعاف الإيمان (والوجه الآخر أنهم المنافقون كما تقدم) فكيف تصدق رواية تجعل عبد الرحمن بن عوف منهم؟. وقد روى ابن جرير عن أبي نجيح عن مجاهد أنها نزلت هي وآيات بعدها في اليهود، وروي عن ابن عباس في ذلك أنه قال في قوله تعالى: {وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال}: نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم اه أي أن يكونوا مثل اليهود في ذلك. وإذا صح هذا فالمراد به والله أعلم الاعتبار بما جاء في سورة البقرة من قوله: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} إلى قوله {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} [البقرة:246]...
والظاهر أن الآية في جماعة المسلمين وفيهم المنافقون والضعفاء، ولا شك أن الإسلام كلفهم مخالفة عادتهم في الغزو والقتال لأجل الثأر، ولأجل الحمية والكسب، وأمرهم بكف أيديهم عن الاعتداء، وأمرهم بالصلاة والزكاة، وناهيك بما فيهما من الرحمة والعطف، حتى خمدت من نفوس أكثرهم تلك الحمية الجاهلية، وحل محلها أشرف العواطف الإنسانية، وكان منهم من يتمنى لو يفرض عليهم القتال، ولا يبعد أن يكون عبد الرحمن بن عوف وبعض السابقين رأوا تركه ذلا وطلبوا الأذن به، ولا يلزم من ذلك أن يكونوا هم الذين أنكروه بعد ذلك خشية من الناس بل ذلك فريق آخر من غير الصادقين، على أنه لما فرض عليهم القتال لما تقدم ذكره من الحكم والأسباب كان كرها لجمهور المسلمين كما سبق بيان ذلك في تفسير {كتب عليهم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم} [البقرة:216] ولكن أهل العزم واليقين أطاعوا وباعوا أنفسهم لله عز وجل فكان الفرق بين قتالهم في الجاهلية وقتالهم في الإسلام عظيما...
وأما المنافقون ومرضى القلوب فكانوا قد أنسوا وسكنوا إلى ما جاء به الإسلام من ترك القتال وكف الأيدي فنال منهم الجبن، وأحبوا الحياة الدنيا، وكرهوا الموت لأجلها، وليس هذا من شأن الإيمان الراسخ، فظهر عليهم أثر الخشية والخوف من الأعداء حتى رجحوه على الخشية من الله عز وجل وسهل عليهم مخالفته بالقعود عن القتال وهو يقول: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران:175] واستنكروا فرض القتال وأحبوا لو تأخر إلى أجل...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
كان المسلمون -إذ كانوا بمكة- مأمورين بالصلاة والزكاة أي: مواساة الفقراء، لا الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط، فإنها لم تفرض إلا بالمدينة، ولم يؤمروا بجهاد الأعداء لعدة فوائد: منها: أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه لا يشق عليهم؛ ويبدأ بالأهم فالأهم، والأسهل فالأسهل. ومنها: أنه لو فرض عليهم القتال -مع قلة عَدَدِهِم وعُدَدِهِم وكثرة أعدائهم- لأدى ذلك إلى اضمحلال الإسلام، فروعي جانب المصلحة العظمى على ما دونها ولغير ذلك من الحِكَم...
وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال، غير اللائق فيها ذلك، وإنما اللائق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من التوحيد والصلاة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} فلما هاجروا إلى المدينة وقوي الإسلام، كُتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك، فقال فريق من الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ}؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله، وكان الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال، التسليم لأمر الله والصبر على أوامره، فعكسوا الأمر المطلوب منهم فقالوا: {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي: هلَّا أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر، وهذه الحال كثيرًا ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في الأمور قبل وقتها، فالغالب عليه أنه لا يصبر عليها وقت حلولها ولا ينوء بحملها، بل يكون قليل الصبر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن السياق يمضي -بعد هذا- إلى التعجيب من أمر طائفة أو أكثر من المسلمين -قيل إن بعضهم من المهاجرين، الذين كانت تشتد بهم الحماسة- وهم في مكة يلقون الأذى والاضطهاد -ليؤذن لهم في قتال المشركين. حيث لم يكن مأذونا لهم- بعد في قتال، للحكمة التي يعلمها الله؛ والتي قد نصيب طرفا من معرفتها فيما سنذكره بعد.. فلما كتب عليهم القتال، بعد أن قامت للإسلام دولة في المدينة، وعلم الله أن في هذا الإذن خيرا لهم وللبشرية.. إذا هم -كما يصورهم القرآن – (يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية! وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال! لولا أخرتنا إلى أجل قريب) ممن إذا أصابهم الحسنة قالوا: هذه من عند الله. وإن أصابتهم السيئة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: هذه من عندك. وممن يقولون: طاعة حتى إذا خرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم بيت طائفة منهم غير الذي تقول). وممن إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به... يمضي السياق ليعجب من شأن هؤلاء، في الأسلوب القرآني؛ الذي يصور حالة النفس، كما لو كانت مشهدا يرى ويحس! ويصحح لهم- ولغيرهم -سوء التصور والإدراك لحقائق الموت والحياة، والأجل والقدر، والخير والشر، والنفع والضرر، والكسب والخسارة، والموازين والقيم؛ ويبين لهم حقائقها في أسلوب يصور الحقائق في صورتها الموحية المؤثرة: (ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب؟ قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا يدرككم الموت. ولو كنتم في بروج مشيدة. وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل: كل من عند الله. فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ ما أصابك من حسنة فمن الله. وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا، وكفى بالله شهيدا. من يطع الرسول فقد أطاع الله؛ من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا)...
فأما لماذا لم يأذن الله للمسلمين- في مكة -بالانتصار من الظلم؛ والرد على العدوان؛ ودفع الأذى بالقوة.. وكثيرون منهم كان يملك هذا؛ فلم يكن ضعيفا ولا مستضعفا ولم يكن عاجزا عن رد الصاع صاعين.. مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلة.. أما حكمة هذا، والأمر بالكف عن القتال، وأقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال.. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب ما لا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته؛ فيفتن عن دينه. وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيموت تحت وطأته.. أما حكمة هذا فلسنا في حل من الجزم بها. لأننا حينئذ نتألى على الله ما لم يبين لنا من حكمة؛ ونفرض على أوامره أسبابا وعللا، قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقية. أو قد تكون، ولكن يكون وراءها أسباب وعلل أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم- سبحانه -أن فيها الخير والمصلحة.. وهذا هو شأن المؤمن أمام أي تكليف. أو أي حكم في شريعة الله- لم يبين الله سببه محددا جازما حاسما -فمهما خطر له من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف؛ أو لكيفية تنفيذ هذا الحكم أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه.. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرد احتمال. ولا يجزم- مهما بلغت ثقته بعلمه وعقله وتدبره لأحكام الله -بأن ما رآه هو حكمة؛ هو الحكمة التي أرادها الله.. نصا.. وليس وراءها شيء، وليس من دونها شيء! فذلك التحرج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله. ومقتضى ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة. وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكة وفرضيته في المدينة.. نذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب.. على أنه مجرد احتمال.. وندع ما وراءه لله. لا نفرض على أمره أسبابا وعللا، لا يعلمها إلا هو.. ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح! إنها أسباب.. اجتهادية.. تخطى ء وتصيب. وتنقص وتزيد. ولا نبغي بها إلا مجرد تدبر أحكام الله. وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
" أ "ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد؛ في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محورا لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته.. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته -ولا يهتاج لأول مهيج. ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.. وتربيته على أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته؛ ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره- مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته -وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء "المجتمع المسلم "الخاضع لقيادة موجهة؛ المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
" ب" وربما كان ذلك أيضا، لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ، في مثل بيئة قريش؛ ذات العنجهية والشرف؛ والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه الفترة -إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات العرب المعروفة، التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس- أعواما طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها -وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدا. ويتحول الإسلام من دعوة، إلى ثارات وذحول تنسى معها فكرته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبدا!
" ج "وربما كان ذلك أيضا، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هم ويفتنونه و" يؤدبونه "! ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة -أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدا يفرق بين الوالد وولده؛ فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وكل محلة؟ "د" وربما كان ذلك أيضا، لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم؛ هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن عمر ابن الخطاب من بين هؤلاء؟!
" ه "وربما كان ذلك، أيضا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة -فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم -يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارا على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته... وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبى طالب، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة؛ وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
" و" وربما كان ذلك أيضا، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة. حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة. أو بلغت أخبارها متناثرة؛ حيث كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف.. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم -ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة. ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهج حياة، وليكون نظاما واقعيا عمليا للحياة.
" ز "في الوقت ذاته لم يكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى. لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائما- وقتها -ومحققا.. هذا الأمر الأساسي هو" وجود الدعوة".. وجودها في شخص الداعية صلى الله عليه وسلم وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع! والنظام القبلي السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني هاشم، إذا هي امتدت يدها إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان شخص الداعية من ثم محميا حماية كافية.. وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحد على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا؛ وفي اجتماعات عامة.. ولا يجرؤ أحد على سد فمه؛ ولا يجرؤ أحد على خطفة وسجنه أو قتله! ولا يجرؤ أحد على أن يفرض عليه كلاما بعينه يقوله؛ يعلن فيه بعض حقيقة دينه؛ ويسكت عن بعضها. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سب آلهتهم وعيبها لم يكف. وحين طلبوا إليه أن يسكت عن عيب دين آبائهم وأجدادهم وكونهم في جهنم لم يسكت. وحين طلبوا إليه أن يدهن فيدهنوا. أي أن يجاملهم فيجاملوه؛ بأن يتبع بعض تقاليدهم ليتبعوا هم بعض عبادته، لم يدهن.. وعلى الجملة كان للدعوة "وجودها" الكامل، في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم محروسا بسيوف بني هاشم -وفي إبلاغه لدعوة ربه كاملة في كل مكان وفي كل صورة.. ومن ثم لم تكن هنالك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئية التي هي في مجموعها، مساندة للدعوة ومساعدة في مثل هذه البيئة. هذه الاعتبارات- كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله -معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم. وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.. لتتم تربيتهم وإعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيات الخطة في هذه البيئة؛ وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب. وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ. لتكون خالصة لله. وفي سبيل الله.. والدعوة لها "وجودها" وهي قائمة ومؤداة ومحمية ومحروسة...
وأيا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال: (فلما كتب عليهم القتال، إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب!). وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشىء فيه حالة من الخلخلة وينشى ء فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة المطمئنة؛ المستقبلة لتكاليف الجهاد -على كل ما فيها من مشقة- بالطمأنينة والثقة والعزم والحماسة أيضا. ولكن في موضعها المناسب. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقية. أما الحماسة قبل الأمر، فقد تكون مجرد اندفاع وتهور؛ يتبخر عند مواجهة الخطر! وكان القرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الرباني: (قل: متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروج مشيدة).. إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة. ويتمنون في حسرة مسكينة! لو كان الله قد أمهلهم بعض الوقت؛ ومد لهم -شيئا- في المتاع بالحياة! والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها؛ ويجلو غبش التصور لحقيقة الموت والأجل.. (قل متاع الدنيا قليل).. متاع الدنيا كله. والدنيا كلها. فما بال أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟ ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير. إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا؟! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين. ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل!؟ (والآخرة خير لمن اتقى).. فالدنيا -أولا- ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة.. إنها مرحلة.. ووراءها الآخرة والمتاع فيها هو المتاع -فضلا على أن المتاع فيها طويل كثير – فهي (خير).. (خير لمن اتقى).. وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها. التقوى لله. فهو الذي يتقى، وهو الذي يخشى. وليس الناس.. الناس الذين سبق أن قال: إنهم يخشونهم كخشية الله- أو أشد خشية! -والذي يتقي الله لا يتقي الناس. والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحدا. فماذا يملك له إذا كان الله لا يريد؟ (ولا تظلمون فتيلا).. فلا غبن ولا ضير ولا بخس؛ إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا. فهناك الآخرة. وهناك الجزاء الأوفى؛ الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي للدنيا والآخرة جميعا! ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه- مع هذا كله -إلى أيام تطول به في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير.. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانية التي كانت فيها هذه الطائفة!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتحدث الآية بلغة التعجب من أمر نفر أظهروا رغبة شديدة في الجهاد خلال ظرف غير مناسب، وأصرّوا على السماح لهم بذلك، وقد صدرت الأوامر لهم حينئذ بالصبر والاحتمال، ودعوا إِلى إِقامة الصلاة، وأداء الزكاة، وبعد أن سنحت الفرصة وآتت الظروف للجهاد بصورة كاملة وأمروا به، استولى على هؤلاء النفر الخوف والرعب، وانبروا يعترضون على الأمر الإِلهي ويتهاونون في أدائه.
تقول الآية: (ألم تر إِلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلمّا كتب عليهم القتال إِذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية...) فكان هؤلاء في اعتراضهم على أمر الجهاد يقولون صراحة: لماذا أسرع الله في إِنزال أمر الجهاد؟ ويتمنون لو أخر الله هذا الأمر ولو قليلا! أو يطلبون أن يناط أمر الجهاد للأجيال القادمة (وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إِلى أجل قريب...).
والقرآن الكريم يردّ على هؤلاء أوّلا من خلال عبارة: (يخشون الناس كخشية الله أو أشدّ خشية) أي أن هؤلاء بدل أن يخافوا الله القادر القهار، أخذتهم الرّجفة واستولى عليهم الرعب من إِنسان ضعيف عاجز، بل أصبح خوفهم من هذا الإِنسان أكبر من خشيتهم الله العلي القدير.
ثمّ يواجه القرآن هؤلاء بهذه الحقيقة: لو أنّهم استطاعوا بعد تركهم الجهاد أن يوفّروا لأنفسهم فرضاً حياة قصيرة رغيدة هانئة، فإنّهم سيخسرون هذه الحياة لأنّها زائلة لا محالة، بينما الحياة الأبدية التي وعد الله بها عباده المؤمنين المجاهدين الذين يخشونه ولا يخشون سواه، هي خير من تلك الحياة الزائلة، وإِن المتقين سيلقون فيها ثوابهم كاملا غير منقوص دون أن يصيبهم أي ظلم، (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا).
من الضروري الالتفات إِلى عدة نقاط في تفسير هذه الآية، وهي:
لماذا أُمرت أُولئك النفر بإِقامة الصلاة وأداء الزكاة دون غيرهما من الفرائض الكثيرة الأخرى؟
والجواب على هذا السؤال يتلخص في أنّ الصلاة هي سر الاتصال بالله سبحانه عزّ وجل، والزكاة تعتبر مفتاحاً لباب الاتصال بعباد الله، وعلى هذا الأساس فقد صدرت الأوامر للمسلمين بأن يعدّوا أنفسهم وأرواحهم ومجتمعهم للجهاد في سبيل الله، عن طريقة إِقامة الصلة الوثيقة بينهم وبين الله وعباده، وبعبارة أُخرى أن يسعوا إِلى بناء أنفسهم وإِعدادها، وبديهي أن أي جهاد يحتاج بالضرورة إِلى إِعداد النفس والروح، وإِلى توثيق عُرى التلاحم الاجتماعي، وبدون ذلك لا يمكن إِحراز أي انتصار.
والإِنسان يقوي صلته بالله من خلال الصلاة ويربّي بها روحه ومعنوياته، فيكون بذلك مستعداً لتقديم أغلى التضحيات بما في ذلك التضحية بالنفس، كما أنّ الزكاة هي الوسيلة الوحيدة لرأب كل صدع اجتماعي، بالإِضافة إِلى كونها دعماً اقتصادياً في سبيل إِعداد ذوي الخبرة والتجربة والعُدة الحربية، وما يحتاجه المسلمون في قتال الأعداء ليكونوا على استعداد لمواجهة العدو إِذا صدر الأمر إِليهم بذلك.
-المعروف أنّ حكم الزكاة ورد في آيات نزلت في المدينة (أي أنّها آيات مدنية) ولم يكلف المسلمون بأداء الزكاة في مكّة فكيف إِذن يمكن القول إِن هذه الآية تتحدث عن وضع المسلمين في مكّة؟
يجيب على هذا السؤال الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسير «التّبيان» فيقول: إِنّ المقصود بالزكاة الواردة في هذه الآية هو الزكاة المستحبة التي كانت معروفة في مكّة، أي أنّ القرآن المجيد كان يحثّ المسلمين حتى في مكّة على تقديم المساعدات المالية إِلى مستحقيها ولدعم اقتصاد المجتمع الإِسلامي الجديد في مكّة.
- وتشير هذه الآية الكريمة إِلى حقيقة مهمة، هي أنّ المسلمين في مكّة كان لهم منهج، ثمّ أصبح لهم في المدينة منهج آخر، ففي مكّة انشغل المسلمون ببناء شخصيتهم الإِسلامية بعد أن تحرروا من أدران الجاهلية، فكان سعي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة منصباً على تربية هؤلاء الذين نبذوا عبادة الأصنام ليجعل منهم أناساً يسترخصون النفس والنفيس في مواجهة ما يعترض سبيل المسلمين من تحديات، فما أحرزه المسلمون من انتصارات باهرة في المدينة المنورة، كان حصيلة عملية بناء الشخصية الإِسلامية، هذه العملية التي تعهدت بها رسالة الإِسلام في مكّة.
لقد تعلم المسلمون الكثير في مكّة ومارسوا تجارب جمّة واكتسبوا استعداداً روحياً ومعنوياً عظيماً خلال العهد المكي، ودليل هذا الأمر هو نزول قرابة التسعين سورة من مجموع سور القرآن الكريم البالغة مائة وأربع وعشرة سورة في مكّة، وقد تناولت هذه السور في الغالب الجوانب العقائدية التربوية الخاصّة بإِعداد الشخصية الإِسلامية أمّا في المدينة فقد انصرف المسلمون إِلى تشكيل الحكومة الإِسلامية وإِقامة أُسس المجتمع الإِسلامي السليم.
ويدل هذه أيضاً على عدم نزول حكم الجهاد والزكاة الواجبين في العصر المكي لأنّ الجهاد من واجبات الحكومة الإِسلامية مثل تشكيل بيت المال فإِنّه من شؤون الحكومة الإِسلامية أيضاً.