غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

71

قول سبحانه : { ألم تر إلى الذين قيل لهم } فيه قولان : الأول أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص ؛ كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن لنا في قتال هؤلاء . فيقول لهم " كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم . " . فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم . الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أُحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد : لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فنزلت . وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلاً دليل الإيمان ، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين أيضا كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا . واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد ، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم : { لم كتبت علينا القتال } وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم { قل متاع الدنيا قليل } وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله : { قل متاع الدنيا قليل } إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة . والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } في شأنهم بلا اختلاف . وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على الجهاد وهو أيضاً ترتيب مطابق لما في المعقول ، لانّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله . وإذا في { إذا فريق } للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم . وقوله : { كخشية الله } من إضافة المصدر إلى المفعول . ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله : { أو أشد } ثم نصب { خشية } على التمييز فالتقدير : يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله . نعم لو قيل : أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر ، اللهم إلاّ أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى : خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله . وعلى هذا يجوز أن يكون محل { أشد } مجروراً عطفاً على خشية الله أي كخشية ألله أو كخشية أشد خشية منها .

وكلمة " أو " ليست للشك ههنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو ، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساوياً أو أزيد ، فبيَّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساوياً أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكاً فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين . أو هذا نظر قوله { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون }[ الصافات :117 ] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام .

{ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب }[ النساء :77 ] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضاً على الله ولكن جزعاً من الموت وحباً للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالاً إلى وقت آخر كقوله :{ لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق }[ المنافقون :10 ] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم ، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه . ومعنى { لولا أخرتنا } هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير } لا لكل الناس بل { لمن اتقى } فإن للكافر والفاسق هنالك نيراناً وأهوالاً ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " . وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة ، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار ، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها .

/خ81