محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

/ ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا77 )

( ألم تر إلى الذين قيل لهم ) وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال ، قبل أن يؤمروا به ( كفوا أيديكم ) أي : عن القتال . فإنكم لم تؤمروا به ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) أي : أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها ، وما يجب فيها من مواقيتها . وأعطوا زكاة أموالكم ( فلما كتب ) أي فرض ( عليهم القتال ) أي الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم ( إذا فريق منهم ) أي طائفة منهم وهم المنافقون . وإدخالهم مع المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم ( يخشون الناس ) أي : يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم ( كخشية الله ) أي كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأيه ( أو أشد خشية ) أي : أكثر خوفا منه .

فان قيل : ظاهر قوله : ( أو أشد خشية ) يوهم الشك . وذلك على علام الغيوب محال . ( أجيب ) بأن ( أو ) اما بمعنى ( بل ) أو هي للتنويع . على أن معنى : أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها . أو للإبهام على السامع . بمعنى أنهم على احدى الصفتين من المساواة والشدة . وهو قريب مما في قوله تعالى : ( أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) {[1993]} يعني أن من يبصرهم يقول : انهم مائة ألف أو يزيدون .

تنبيه :

حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس ، أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة المهاجرين وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة ، قبل الهجرة ، أذى شديدا . فيشكون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : ائذن لنا في قتالهم . فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم : كفوا أيديكم . فاني لم أؤمر بقتالهم . واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة . ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم ، فنزلت الآية .

وعندي أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين ، تقريعا لهم وتحذيرا للمخلصين ، من شاكلتهم . والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه : منها –أن في اسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح . ومنها –أن طلبهم للجهاد وهم في مكة ، مع قلة العَدد والعُدد ، وممالأة العدو عليهم من كل جانب –في غاية البعد . ومنها – أن السياق في المنافقين . وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ) -إلى قوله تعالى الآتي- : ( فلا تتخذوا منهم أولياء . . . ) الآية . كما يظهر من التدبر الصادق . ومنها –أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين . لأنه تعالى قال في وصفهم : ( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) . ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق . وحكى تعالى عنهم انهم قالوا : ( ربنا لم كتبت علينا القتال ) . ولم يعهد هذا عن المؤمنين ، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد . كما روى ابن اسحاق في ( السيرة ) {[1994]} " أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار الناس في غزوة بدر . فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن . ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! امض لما أراك الله . فنحن معك . والله ! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) {[1995]} . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، انا معكما مقاتلون . فوالذي بعثك بالحق ! لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه .

/ ثم قال سعد بن معاذ : امض ، يا رسول الله ! لما أردت ، فنحن معك . فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك . ما تخلف منا رجل واحد . وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا . إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء " . ومنها –أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله : ( وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ) {[1996]} . ولا شك أن هذا من كلام المنافقين . ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله : ( فما لكم في المنافقين فئتين ) . فزال اللبس وبرح الخفاء .

وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في ( سورة محمد ) {[1997]} : ( ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة ) . أي : تأمرنا بالجهاد ، ( فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك . . . ) إلى قوله تعالى : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ) ( وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ) أي الجهاد في سبيلك ( لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) أي : هلا عافتينا وتركتنا حتى نموت بآجالنا ( قل ) أي : تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني ، وترغيبا فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي ( متاع الدنيا ) أي ما يتمتع وينتفع به في الدنيا ( قليل ) سريع التقضي ، وشيك الانصرام . وان أخرتم إلى ذلك الأجل ( والآخرة ) أي : ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد ( خير ) أي : لكم من ذلك المتاع الفاني ، لكثرته وعدم انقطاعه ، وصفائه عن الكدورات . وانما قيل ( لمن اتقى ) حثا لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف . ( ولا تظلمون فتيلا ) عطف على مقدر . ينسحب عليه الكلام . أي : تجزون فيها ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم ، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال . فلا ترغبوا عنه . ( والفتيل ) ما في شق النواة من الخيط . يضرب به المثل في القلة والحقارة . وقرئ ( يظلمون ) بالياء ، إعادة للضمير إلى ظاهر ( من ) . أفاده أبو السعود .

روى ابن أبي حاتم قال : " قرأ الحسن : قل متاع الدنيا قليل . قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك . ما الدنيا كلها ، أولها وآخرها ، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه " . وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد :

ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له *** من الله في دار المقام نصيب

فان تعجب الدنيا رجالا فإنها *** متاع قليل والزوال قريب


[1993]:|37/ الصافات/ 147|.
[1994]:انظر سيرة ابن هشام، الصفحة 266 و267 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) و ص434 و435 (طبعة جوتنجن).
[1995]:|5/ المائدة/ 24|.
[1996]:|4/ النساء/ 78| ونصها: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وان تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا78).
[1997]:|47/ محمد/ 20 -29|.