تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

المفردات :

كفوا أيديكم : اقبضوها وامنعوها عن القتال

متاع الدنيا : ما يتمتع به من زخرفها وزينتها ولذائذها .

فتيلا : الفتيل : الخيط الموجود في شق النواة ، يضرب به المثل في القلة والحقارة .

التفسير :

77- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ . . . الآية . روى ابن أبي حاتم بسنده . عن ابن عباس ، أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عزة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة ، قال : ''إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم'' . فلما حوله الله إلى المدينة ، أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ . . . {[19]} . أي : ألم ينته إلى علمك- يا محمد- حال أولئك الذين كانوا يتمون القتال- وهم بمكة- قبل أن يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم فيه ؛ رغبة في التخلص من إيذاء المشركين المستمر لهم ؟ !

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يستمهلهم ويقول لهم- وهم بمكة- : كفوا أيديكم عن قتال المشركين حتى يأذن الله فيه وتفرغوا لتطهير أنفسهم وتزكيتها : بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة {[20]} ، وإعدادها للجهاد حين يأذن الله به فيه ؟ !

والاستفهام لتعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه ، وكل من يتأتي منه ذلك إلى يوم القيامة- تعجيب لهم –من حال هؤلاء الذين تحدثت الآية عن شأنهم . فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً . أي : فلما فرض الله القتال على المؤمنين- بعد الهجرة- استولى الخوف على الكفار- على نفوس فريق منهم ، وهم المنافقون ، وتهيبوا قتال الناس خشية القتل أو الأسر ، وملأ الرعب قلوبهم فأصبحوا يخافون قتال الكفار كخوف المتقين من الله . بل أصبح خوفهم من الناس أشد من خوف المتقين من ربهم .

وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ . أي : وقالوا- في ضيق ورعب وجزع من الموت- : يا ربنا ، لم فرضت علينا القتال ؟ ! هلا أخرت فرضه علينا إلى مدة قريبة ؟ ! حبا في التمتع بالدنيا . والمدة القريبة غير محدودة فهي- عندهم- انتهاء آجالهم دون قتال أو : يا ربنا ، هلا زدتنا في مدة الكف إلى وقت آخر ، قابل للتجديد ؟ ! حذرا من الموت ، وهربا من الجهاد ؛ فقال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم : قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً . . .

متاع الدنيا كله قليل ، فما بال أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين ؟ ! وما قيمة هذا الإمهال لاجل قصير ، إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلا ؟ ! ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيام أو أسابيع أو شهور أو سنين ، ومتاع الدنيا كله ، والدنيا بطولها قليل ؟ !

وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى . أي : وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل ، لمن اتقى الله ، ولم يخش إلا الله ، وتأتي التقوى هنا في موضعها للمقابلة بين من يخاف الناس ومن يخاف الله ، فالذي يخاف الله لا يخاف الناس ، والإنسان لا يملك لك نفعا أو ضرا إلا بإذن الله .

وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً . والفتيل : الخيط الموجود في شق النواة ؛ أي : إن الله هو الذي يجازي الأتقياء جزاء الكريم العليم ، ولا ينقصون من أجورهم شيئا مهما كان قليلا ، قال تعالى : فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . ( الزلزلة : 7-8 ) .


[19]:إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم: رواه النسائي في الجهاد (3086) من حديث ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله إنا كنا في عز ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا فلما حولنا الله إلى المدينة أمرنا بالقتال فكفوا فأنزل الله عز وجل {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة}. وذكره السيوطي في الدر ونسبه لابن جرير وابن حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه.
[20]:كانت الزكاة غير محددة المقادير في مكة- قبل الهجرة- وكان ذلك متروكا لتقدير المسلمين، ثم تم تحديدها بالمدينة.