فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أوأشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا ( 77 ) }

{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } قيل هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه فلما كتب عليهم بالمدينة ثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفا من الموت وفزعا من هول القتل ، وقال مجاهد : إنها نزلت في اليهود ، وقيل في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال ، فلما فرض كرهوه ، وهذا أشبه بالسياق لقوله { وقالوا ربنا- إلى قوله - قريب } وقوله إن تصبهم حسنة الآية ، ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة ، وفيه دليل على أن فرض الصلاة والزكاة كان قبل فرض الجهاد .

{ فلما كتب عليهم القتال } أي فرض عليهم جهاد المشركين وأمروا بالخروج إلى بدر { إذا فريق منهم } أي جماعة من الذين سألوا أن يفرض عليهم الجهاد { يخشون الناس } أي يخافوا مشركي مكة { كخشية الله أو أشد خشية } أو للتنويع على أن معنى خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها { وقالوا } جزعا من الموت { ربنا لم كتبت علينا القتال } أي لم فرضت علينا الجهاد { لا } هلا { أخرتنا } يريدون المهلة { إلى أجل } أي وقت آخر { قريب } من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال .

والقائلون لهذا القول هم المنافقون ، وقيل قاله بعض المؤمنين خوفا وجبنا لا اعتقادا ثم تابوا منه ، وقال السدي : إلى أجل يعني إلى موت ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم فقال { قل متاع الدنيا } أي منفعتها والاستمتاع بها { قليل } سريع الفناء زائل لا يدوم لصاحبه آيل إلى الفناء { والآخرة } أي ثوابها { خير } من المتاع القليل { لمن اتقى } الشرك والمعصية منكم ورغب في الثواب الدائم { ولا تظلمون فتيلا } أي قدر قشرة يعني شيئا حقيرا يسيرا وقد تقدم تفسير الفتيل قريبا .

وإذا كنتم توفون أجوركم ولا تنقضون شيئا منها فكيف ترغبون عن ذلك ، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه ؟

أخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن عبد الرحمان بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال : إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم ، فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله هذه الآية{[507]} وعن قتادة نحوه .


[507]:ذكره الواحدي عن الكلبي، وروى ابن جرير8/549 عن ابن عباس: أن عبد الرحمان بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا، فلما حوله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} الآية، وإسناده جيد، ورواه الحاكم في "المستدرك" مع اختلاف في لفظه، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.