وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال } الآية اختلف فيه : قيل : نزلت الآية في بني إسرائيل ، وهي الآية التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى }إلى قوله : { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا }( الآية : 246 ) وقيل : إنها نزلت في المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال مكة سرا لكثرة ما يلقون من الأذى منهم ، فنزل قوله تعالى : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أي لم يؤمنوا بالقتال ، فنهاهم عن ذلك{ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله } الآية ، وقيل : إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { يخشون الناس كخشية الله } أي يخشون الله ؛ يعني المنافقين كخشية المؤمنين الله{ أو أشد خشية } كقوله سبحانه وتعالى { يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } ( البقرة : 165 ) وإن كانت في المؤمنين فتأويله { يخشون الناس } في القتال{ أو أشد خشية } في الموت{ كخشية الله } لأنه أهيب وأسرع نفاذا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية ؛ تكلموا في ذلك ، فمنهم من جعله خبرا عن أمر بني إسرائيل الذين{ قالوا لبني لهم أبعث لنا ملكا } الآية ( البقرة : 246 )لأنهم{[5971]} أمروا بالكف عن( المقاتلة ، فتمنوا ){[5972]} الإذن في ذلك ، وسألوا نبيهم عليه السلام عن ذلك ، وسألوا نبيهم عليه السلام عن ذلك . ثم منهم {[5973]} من أعرض عن الطاعة ، وقد كان أهل الإيمان يتمنون الإذن في ذلك ، كقوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت } ( آل عمران : 143 ) . فوعظوا ( لما ذكر ) {[5974]}ليقلبوا العاقبة ، ولئلا يتمنوا محنة فيها شدة ، فيبعثهم على ما بعث أولئك .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا ربكم العاقبة ، وإذا لقيتموهم فتسوروا في وجوههم " ( البخاري2966و3029 ) وكان في علم الله أن يأمرهم{[5975]} ، فأخبروا بالذن قتلوا ( وما ){[5976]} حل بهم لئلا يفعلوا مثل فعلهم ، والله أعلم .
وخشيتهم { كخشية الله } كقوله تعالى : { لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده } ( البقرة : 249 )إلى تمام القصة .
وقد قيل : الآية نزلت في ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا في ذلك . ثم خاطبهم بالذي{[5977]} ذكر . لكن اختلف في ذلك ؛ فمنهم من يقول : كان في الصديقين ، لكن اشتد عليهم الأمر ؛ وذلك نحو ما كان منهم يوم حنين وأحد ونحو ذلك حتى أعانهم الله تعالى ، وفرج عنهم بمنه .
وعلى ذلك قوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت }( آل عمران : 143 ) أي ما فيه الموت من الجهاد . وعلى ذلك { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } لما{[5978]} عاينوا السبب الذي فيه هلاكهم ، وتبلغ عند ذلك الخشية غايتها نحو قرب الموت وشدة المرض ، يكون المرء يخشى منه الموت ما لا خشية لولا تلك الحال : أنه يرى الموت ( أفضل ){[5979]} من المرض ، وإن كان الذي ، يظهر عليه من خشية الموت في تلك الحال أشد ، فهي في الحقيقة خشية من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سبب الموت ، وأنه حضره ، وقرب منه ، فيكون في ظاهر الأمر كمن يخشى من تلك الأحوال . وقد جعل لما جبل عليه الخلق في مثله معروفا{[5980]} مثله ، أعني أن المريض يستعد للموت ، لما يغلب عليه الموت ، لما يغلب عليه الإياس من حياته ، وإن كان الذي يصيب تستوي عليه أحواله .
فعلى ذلك أمر الأول . وعلى ذلك في ما طبع عليه الخلق من طمأنينة القلب عند ملك أسباب الرزق والقدرة عليه ما لم يكن في غريها . وإن كان من حيث قدرة الله واحدا{[5981]} ، فتكون تلك الخشية جبلية طبيعية لا اختيارية أو سخطا{[5982]} بحكم الرب ، وهو كالذي( جاز فيه ) {[5983]}قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } الآية ( البقرة : 216 ) .
وقوله تعالى على ذلك : { ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب }الآية تحتمل وجهين :
أحدهما : الخبر عما في طباعهم كما قال عز وجل : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } الآية( البقرة : 216 ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حفت الجنة بالمكاره " ( مسلم 2822 ) وإنما ذلك على الطبع كالسائل عن ذلك . وربما يصيغون القول والسؤال على اعتبار الأحوال إلى ما لا يطيق له . فعلى هذا ، والله أعلم .
والثاني{[5984]} : أن يكون قولا منهم عن وجه الحكمة لهم بالأمر في ما علم أنهم يبلغون بالقتل والجبن إلى حال لا يقومون للعدو ، ولا يملكون أنفسهم في ذلك الوقت . فأخبر الله عز وجل أن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التمتع بالدنيا . ولو صوروا متاع الآخرة في قلوبهم لذهب{[5985]} عنهم ذلك ، ويثبتون للعدو ، ولا ينالون للعدو ، ( ويرضون ){[5986]} بما يحل ، ولا يخشون ذلك ، وكأنه وعد لهم أن متاع الآخرة لكم ، على هذا الفعل لو صبرتم خير لكم ، وما وعد لكم عليه خير من متاع الدنيا .
وأيضا أن يقال : إن هذا ، وإن عظم{[5987]} ، هو له على الطبع . فإنه إذا كان لله بحق العبادة هو أيسر وأهون من الموت على صاحبه إذا حضر إذن يريهم الله متاع الآخرة أو بعض ما فيه الكرامة ، فيصير ذلك متاع الآخرة لهم وقت الموت ، فهو خير من تمتعهم في الدنيا ثم الموت ، ولا بد{[5988]} منه كما قيل في ( تأويل قوله ) {[5989]} . صلى الله عليه وسلم : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " ( البخاري : 6507و6508 ) .
إن المؤمن يرى ماله من الكرامة ، فيجب الموت أن يجعل به ليصل إلى ذلك . والكافر يرى سخطه ، فيكرهه .
وعلى هذا تأويل ( قوله ، صلى الله عليه وسلم ){[5990]} في الدنيا : " إنها سجن المؤمن وجنة الكافر( والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن " ){[5991]}( مسلم 2956 )أن يكون كذلك الموت في ذلك الوقت ، والله أعلم .
وتأويل آخر أن تكون الآية في المنافقين أنه تظهر وقت النفاق المحنة بالجهاد دون غيره من العبادات .
قال الله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } الآية( محمد : 20 ) بين ما نزل بالمنافقين . وكذلك قوله تعالى : { قد يعلم الله المعوقين منكم } الآيات : ( الأحزاب : 18و19و20 ) ، والله أعلم ، في من نزلت الآية . لكنها معلوم أن فيها ترغيبا في ما عند الله وتزهيدا في الدنيا ودعاء إلى الرضا بحكم الله تعالى في ما خف ، وثقل ، والله المستعان .
وعلى التأويل الآخر جميع ما ذكر ظاهر في المنافقين ، مذكور ذلك في الآيات التي ذكرتها . وفيهم قال الله تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار }الآية{ الأحزاب : 16 ) وغير ذلك مما دل على إنكارهم وفضل خوفهم من{[5992]} ذلك ، والله أعلم .
فإن قال قائل : كيف قال( الله تعالى ){[5993]} : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقد هلك به أكثر البشر ؟ قيل : قد يخرج على وجوه ، والله أعلم .
أحدها : أنه يضعف كيده على من يعوذ بالله تعالى كقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله } الآية ( الأعراف : 200 ) ، وإنما يقول على من جنح له ، ومال ما دعاه إليه كقوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } الآية إلى قوله : { ثم لا يقصرون } ( الأعراف : 201و202 ) .
والثاني : أن يكون ضعيفا على المقبل على ربه والذاكر له في أحواله/103-ب/ والمفوض أمره إلى ربه . فأما من تولاه ، وأقبل على إشارته ، فهو الذي جعل له السلطان على نفسه بما آثره في شهواته ، ومال به هواه كقوله تعالى : { ليس له سلطان على الذين آمنوا } الآية ( النحل : 99 ) ، وقد سماه الله تعالى : { الوسواس الخناس } ( الناس : 4 ) بما يخنس {[5994]} بذكر الله تعالى ، ويوسوس عند الغفلة عن الله ، فكان سلطانه ، والله الموفق .
والثالث : أنه لا يملك الجبر والقهر ولا كتاب{[5995]} الضرر في الأبدان والأموال ، فهو ضعيف ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وقالوا ربنا لما كتبت علينا القتال } قيل : في حرف حفصة . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فلما كتب عليهم القتال إذا هم يخشون الناس كخشية الله . كأن في الآية إضمارا{[5996]} ، يبين ذلك حرف حفصة ، وإلا لم يكن في ظاهر الآية خبر حتى يكون قوله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم } الآية جوابا له .
وقوله عز وجل{ لم كتب علينا القتال } ، فإن كانت الآية في المنافقين فهو على الإنكار قالوا ذلك ، وإن كانت في المؤمنين فهو يخرج على طلب الحكمة في فرض القتال علينا . وقد تطلب الحكمة في الأشياء ، ولا عيب يدخل في ذلك .
وأصله أن كل( من ){[5997]} أمر في الظاهر من هو فوقه فذلك سؤال له في الحقيقة لا أمر ، فيخرج سؤاله مخرج الخضوع والتضرع له . ومن أمر من دونه فهو في الحقيقة ليس بسؤال ، فهو يخرج على الأمر والنهي ، وهو الأمر الظاهر في الناس .
وقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } معناه ، والله أعلم : أنا لم نخلقكم للدنيا وللمتاع فيها ، إنما خلقناكم بالآخرة وللمقام فيها . فلو خلقناكم{[5998]} للدنيا ، ثم كتبنا {[5999]} عليكم القتال لكان ذلك عبثا خارجا عن الحكمة ، ولكن خلقناكم للآخرة وللمقام فيها .
ويحتمل فيها قوله تعالى : { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } وقوله تعالى : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } إلى آخره أن لم يقولوا ذلك قولا ، ولكن كان ذلك خطرا في قلوبهم ، فأخبرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عما أضمروا ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ، عز وجل ليدلهم على نبوته ورسالته .
وقوله تعالى : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } فنموت حتف أنوفنا {[6000]} ، ولا نقتل قتلا ، فيسر بذلك الأعداء{ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } ( يونس : 85 ) وفي القتل فتنة .
وقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل }يحتمل وجهين :
أحدهما : ما ذكرنا أنهم لم يخلقوا لمتاع الدنيا ، ولكن خلقوا لمتاع الآخرة .
والثاني : قليل من متاع الآخرة كقوله سبحانه وتعالى{ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } ( التوبة : 38 ) وكقوله تعالى : { أقرأت متعناهم سنين } { ثم جاءهم ما كانوا يوعدون } { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ( الشعراء : 205و : 206و : 207 ) .
وقوله تعالى : { والآخرة خير لمن اتقى } لأن متاع الآخرة دائم غير منقطع ، ومتاع الدنيا زائل منقطع .