تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا} (77)

الآية 77

وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال } الآية اختلف فيه : قيل : نزلت الآية في بني إسرائيل ، وهي الآية التي ذكرها الله تعالى في سورة البقرة : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى }إلى قوله : { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا }( الآية : 246 ) وقيل : إنها نزلت في المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال مكة سرا لكثرة ما يلقون من الأذى منهم ، فنزل قوله تعالى : { كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أي لم يؤمنوا بالقتال ، فنهاهم عن ذلك{ فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله } الآية ، وقيل : إنها نزلت في المنافقين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : { يخشون الناس كخشية الله } أي يخشون الله ؛ يعني المنافقين كخشية المؤمنين الله{ أو أشد خشية } كقوله سبحانه وتعالى { يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } ( البقرة : 165 ) وإن كانت في المؤمنين فتأويله { يخشون الناس } في القتال{ أو أشد خشية } في الموت{ كخشية الله } لأنه أهيب وأسرع نفاذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية ؛ تكلموا في ذلك ، فمنهم من جعله خبرا عن أمر بني إسرائيل الذين{ قالوا لبني لهم أبعث لنا ملكا } الآية ( البقرة : 246 )لأنهم{[5971]} أمروا بالكف عن( المقاتلة ، فتمنوا ){[5972]} الإذن في ذلك ، وسألوا نبيهم عليه السلام عن ذلك ، وسألوا نبيهم عليه السلام عن ذلك . ثم منهم {[5973]} من أعرض عن الطاعة ، وقد كان أهل الإيمان يتمنون الإذن في ذلك ، كقوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت } ( آل عمران : 143 ) . فوعظوا ( لما ذكر ) {[5974]}ليقلبوا العاقبة ، ولئلا يتمنوا محنة فيها شدة ، فيبعثهم على ما بعث أولئك .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا ربكم العاقبة ، وإذا لقيتموهم فتسوروا في وجوههم " ( البخاري2966و3029 ) وكان في علم الله أن يأمرهم{[5975]} ، فأخبروا بالذن قتلوا ( وما ){[5976]} حل بهم لئلا يفعلوا مثل فعلهم ، والله أعلم .

وخشيتهم { كخشية الله } كقوله تعالى : { لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده } ( البقرة : 249 )إلى تمام القصة .

وقد قيل : الآية نزلت في ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا في ذلك . ثم خاطبهم بالذي{[5977]} ذكر . لكن اختلف في ذلك ؛ فمنهم من يقول : كان في الصديقين ، لكن اشتد عليهم الأمر ؛ وذلك نحو ما كان منهم يوم حنين وأحد ونحو ذلك حتى أعانهم الله تعالى ، وفرج عنهم بمنه .

وعلى ذلك قوله تعالى : { ولقد كنتم تمنون الموت }( آل عمران : 143 ) أي ما فيه الموت من الجهاد . وعلى ذلك { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } لما{[5978]} عاينوا السبب الذي فيه هلاكهم ، وتبلغ عند ذلك الخشية غايتها نحو قرب الموت وشدة المرض ، يكون المرء يخشى منه الموت ما لا خشية لولا تلك الحال : أنه يرى الموت ( أفضل ){[5979]} من المرض ، وإن كان الذي ، يظهر عليه من خشية الموت في تلك الحال أشد ، فهي في الحقيقة خشية من الله تعالى أن يكون جعل ذلك سبب الموت ، وأنه حضره ، وقرب منه ، فيكون في ظاهر الأمر كمن يخشى من تلك الأحوال . وقد جعل لما جبل عليه الخلق في مثله معروفا{[5980]} مثله ، أعني أن المريض يستعد للموت ، لما يغلب عليه الموت ، لما يغلب عليه الإياس من حياته ، وإن كان الذي يصيب تستوي عليه أحواله .

فعلى ذلك أمر الأول . وعلى ذلك في ما طبع عليه الخلق من طمأنينة القلب عند ملك أسباب الرزق والقدرة عليه ما لم يكن في غريها . وإن كان من حيث قدرة الله واحدا{[5981]} ، فتكون تلك الخشية جبلية طبيعية لا اختيارية أو سخطا{[5982]} بحكم الرب ، وهو كالذي( جاز فيه ) {[5983]}قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } الآية ( البقرة : 216 ) .

وقوله تعالى على ذلك : { ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب }الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : الخبر عما في طباعهم كما قال عز وجل : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } الآية( البقرة : 216 ) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حفت الجنة بالمكاره " ( مسلم 2822 ) وإنما ذلك على الطبع كالسائل عن ذلك . وربما يصيغون القول والسؤال على اعتبار الأحوال إلى ما لا يطيق له . فعلى هذا ، والله أعلم .

والثاني{[5984]} : أن يكون قولا منهم عن وجه الحكمة لهم بالأمر في ما علم أنهم يبلغون بالقتل والجبن إلى حال لا يقومون للعدو ، ولا يملكون أنفسهم في ذلك الوقت . فأخبر الله عز وجل أن الذي حملهم على ذلك رغبتهم في التمتع بالدنيا . ولو صوروا متاع الآخرة في قلوبهم لذهب{[5985]} عنهم ذلك ، ويثبتون للعدو ، ولا ينالون للعدو ، ( ويرضون ){[5986]} بما يحل ، ولا يخشون ذلك ، وكأنه وعد لهم أن متاع الآخرة لكم ، على هذا الفعل لو صبرتم خير لكم ، وما وعد لكم عليه خير من متاع الدنيا .

وأيضا أن يقال : إن هذا ، وإن عظم{[5987]} ، هو له على الطبع . فإنه إذا كان لله بحق العبادة هو أيسر وأهون من الموت على صاحبه إذا حضر إذن يريهم الله متاع الآخرة أو بعض ما فيه الكرامة ، فيصير ذلك متاع الآخرة لهم وقت الموت ، فهو خير من تمتعهم في الدنيا ثم الموت ، ولا بد{[5988]} منه كما قيل في ( تأويل قوله ) {[5989]} . صلى الله عليه وسلم : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " ( البخاري : 6507و6508 ) .

إن المؤمن يرى ماله من الكرامة ، فيجب الموت أن يجعل به ليصل إلى ذلك . والكافر يرى سخطه ، فيكرهه .

وعلى هذا تأويل ( قوله ، صلى الله عليه وسلم ){[5990]} في الدنيا : " إنها سجن المؤمن وجنة الكافر( والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن " ){[5991]}( مسلم 2956 )أن يكون كذلك الموت في ذلك الوقت ، والله أعلم .

وتأويل آخر أن تكون الآية في المنافقين أنه تظهر وقت النفاق المحنة بالجهاد دون غيره من العبادات .

قال الله تعالى : { ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } الآية( محمد : 20 ) بين ما نزل بالمنافقين . وكذلك قوله تعالى : { قد يعلم الله المعوقين منكم } الآيات : ( الأحزاب : 18و19و20 ) ، والله أعلم ، في من نزلت الآية . لكنها معلوم أن فيها ترغيبا في ما عند الله وتزهيدا في الدنيا ودعاء إلى الرضا بحكم الله تعالى في ما خف ، وثقل ، والله المستعان .

وعلى التأويل الآخر جميع ما ذكر ظاهر في المنافقين ، مذكور ذلك في الآيات التي ذكرتها . وفيهم قال الله تعالى : { قل لن ينفعكم الفرار }الآية{ الأحزاب : 16 ) وغير ذلك مما دل على إنكارهم وفضل خوفهم من{[5992]} ذلك ، والله أعلم .

فإن قال قائل : كيف قال( الله تعالى ){[5993]} : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } وقد هلك به أكثر البشر ؟ قيل : قد يخرج على وجوه ، والله أعلم .

أحدها : أنه يضعف كيده على من يعوذ بالله تعالى كقوله تعالى : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعد بالله } الآية ( الأعراف : 200 ) ، وإنما يقول على من جنح له ، ومال ما دعاه إليه كقوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان } الآية إلى قوله : { ثم لا يقصرون } ( الأعراف : 201و202 ) .

والثاني : أن يكون ضعيفا على المقبل على ربه والذاكر له في أحواله/103-ب/ والمفوض أمره إلى ربه . فأما من تولاه ، وأقبل على إشارته ، فهو الذي جعل له السلطان على نفسه بما آثره في شهواته ، ومال به هواه كقوله تعالى : { ليس له سلطان على الذين آمنوا } الآية ( النحل : 99 ) ، وقد سماه الله تعالى : { الوسواس الخناس } ( الناس : 4 ) بما يخنس {[5994]} بذكر الله تعالى ، ويوسوس عند الغفلة عن الله ، فكان سلطانه ، والله الموفق .

والثالث : أنه لا يملك الجبر والقهر ولا كتاب{[5995]} الضرر في الأبدان والأموال ، فهو ضعيف ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وقالوا ربنا لما كتبت علينا القتال } قيل : في حرف حفصة . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال فلما كتب عليهم القتال إذا هم يخشون الناس كخشية الله . كأن في الآية إضمارا{[5996]} ، يبين ذلك حرف حفصة ، وإلا لم يكن في ظاهر الآية خبر حتى يكون قوله تعالى : { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم } الآية جوابا له .

وقوله عز وجل{ لم كتب علينا القتال } ، فإن كانت الآية في المنافقين فهو على الإنكار قالوا ذلك ، وإن كانت في المؤمنين فهو يخرج على طلب الحكمة في فرض القتال علينا . وقد تطلب الحكمة في الأشياء ، ولا عيب يدخل في ذلك .

وأصله أن كل( من ){[5997]} أمر في الظاهر من هو فوقه فذلك سؤال له في الحقيقة لا أمر ، فيخرج سؤاله مخرج الخضوع والتضرع له . ومن أمر من دونه فهو في الحقيقة ليس بسؤال ، فهو يخرج على الأمر والنهي ، وهو الأمر الظاهر في الناس .

وقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل } معناه ، والله أعلم : أنا لم نخلقكم للدنيا وللمتاع فيها ، إنما خلقناكم بالآخرة وللمقام فيها . فلو خلقناكم{[5998]} للدنيا ، ثم كتبنا {[5999]} عليكم القتال لكان ذلك عبثا خارجا عن الحكمة ، ولكن خلقناكم للآخرة وللمقام فيها .

ويحتمل فيها قوله تعالى : { يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية } وقوله تعالى : { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } إلى آخره أن لم يقولوا ذلك قولا ، ولكن كان ذلك خطرا في قلوبهم ، فأخبرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عما أضمروا ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ، عز وجل ليدلهم على نبوته ورسالته .

وقوله تعالى : { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } فنموت حتف أنوفنا {[6000]} ، ولا نقتل قتلا ، فيسر بذلك الأعداء{ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } ( يونس : 85 ) وفي القتل فتنة .

وقوله تعالى : { قل متاع الدنيا قليل }يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا أنهم لم يخلقوا لمتاع الدنيا ، ولكن خلقوا لمتاع الآخرة .

والثاني : قليل من متاع الآخرة كقوله سبحانه وتعالى{ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } ( التوبة : 38 ) وكقوله تعالى : { أقرأت متعناهم سنين } { ثم جاءهم ما كانوا يوعدون } { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } ( الشعراء : 205و : 206و : 207 ) .

وقوله تعالى : { والآخرة خير لمن اتقى } لأن متاع الآخرة دائم غير منقطع ، ومتاع الدنيا زائل منقطع .

وقوله تعالى : { ولا تظلمون قتيلا } قد ذكرناه .


[5971]:في الأصل وم: أنهم..
[5972]:في الأصل وم: مقاتلته تمنوا.
[5973]:في الأصل وم: فيهم.
[5974]:في الأصل وم: لمن ذكرت.
[5975]:في الأصل وم: يأمرهم.
[5976]:في الأصل وم: و.
[5977]:في الأصل وم: الذي.
[5978]:في الأصل وم:فلما.
[5979]:ساقطة عن الأصل وم.
[5980]:في الأصل وم: معروف
[5981]:في الأصل وم: واحد.
[5982]:في الأصل وم: سخط.
[5983]:في الأصل وم: جائز.
[5984]:في الأصل وم: ويحتمل.
[5985]:في الأصل وم:ليذهب.
[5986]:في الأصل وم: و.
[5987]:في الأصل وم:أعظم.
[5988]:من م. في الأصل: ذلك.
[5989]:في الأصل وم: تأويله
[5990]:في الأصل وم: القول..
[5991]:ساقطة من الأصل وم.
[5992]:من م، في الأصل..
[5993]:ساقطة من الأصل وم.
[5994]:من م. في الأصل: يختص.
[5995]:في الأصل وم: الكتاب
[5996]:في الأصل وم: إضمار.
[5997]:ساقطة من الأصل وم..
[5998]:في الأصل وم: خلقنكم.
[5999]:في الأصل وم: كتبت.
[6000]:في الأصل وم: أنفسنا.