قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } . نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من ذوي عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج ، يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها ، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها ، فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس ، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه ، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه ، فلا ينفق علي ، ولا يدخل بي ، ولا يخلي سبيلي ، فقال : اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله . فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } . قرأ حمزة والكسائي : كرهاً بضم الكاف ها هنا وفي التوبة . وقرأ الباقون بالفتح قال الكسائي : هما لغتان . قال الفراء : الكره بالفتح ما أكره عليه ، وبالضم ما كان من قبل نفسه من المشقة .
قوله تعالى : { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } . أي : لا تمنعوهن من الأزواج ليضجرن فيفتدين ببعض مالهن ، قيل : هذا خطاب لأولياء الميت ، والصحيح أنه خطاب للأزواج . قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر ، فنهى الله تعالى عن ذلك .
قوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم ، واختلفوا في الفاحشة ، قال ابن مسعود وقتادة : هي النشوز ، وقال بعضهم : وهو قول الحسن : هي الزنا . يعني : المرأة إذا نشزت ، أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع ، وقال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشةً أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحدود ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر ( مبينة ومبينات ) بفتح الياء ، ووافق أهل المدينة والبصرة في مبينات ، والباقون بكسرها .
قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } : قال الحسن : راجع إلى أول الكلام ، يعني { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } { وعاشروهن بالمعروف } والمعاشرة بالمعروف : هي الإجمال في القول ، والمبيت ، والنفقة ، وقيل : هي أن يتصنع لها كما تتصنع له .
قوله تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } . قيل : هو ولد صالح ، أو يعطفه الله عليها .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا *
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا }
كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته ، رأى قريبُه كأخيه وابن عمه ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد ، وحماها عن غيره ، أحبت أو كرهت .
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها ، وإن لم يرضها عضلها فلا يزوجها إلا من يختاره هو ، وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيئًا من ميراث قريبه أو من صداقها ، وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي [ يكون ] يكرهها ليذهب ببعض ما آتاها ، فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الأحوال إلا حالتين : إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الأول ، كما هو مفهوم قوله : { كَرْهًا } وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلام الفاحش وأذيتها لزوجها فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها ، عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه إذا كان عضلا بالعدل .
ثم قال : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل المعاشرة القولية والفعلية ، فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف ، من الصحبة الجميلة ، وكف الأذى وبذل الإحسان ، وحسن المعاملة ، ويدخل في ذلك النفقة والكسوة ونحوهما ، فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها في ذلك الزمان والمكان ، وهذا يتفاوت بتفاوت الأحوال .
{ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } أي : ينبغي لكم -أيها الأزواج- أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن ، فإن في ذلك خيرًا كثيرًا . من ذلك امتثال أمر الله ، وقبولُ وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة .
ومنها أن إجباره نفسَه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس ، والتخلق بالأخلاق الجميلة . وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة ، كما هو الواقع في ذلك . وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والآخرة . وهذا كله مع الإمكان في الإمساك وعدم المحذور .
والموضوع الثاني في هذا الدرس هو موضوع المرأة . .
ولقد كانت الجاهلية العربية - كما كانت سائر الجاهليات من حولهم - تعامل المرأة معاملة سيئة . . لا تعرف لها حقوقها الإنسانية ، فتنزل بها عن منزلة الرجل نزولا شنيعا ، يدعها أشبه بالسلعة منها بالإنسان . وذلك في الوقت الذي تتخذ منها تسلية ومتعة بهيمية ، وتطلقها فتنة للنفوس ، وإغراء للغرائز ، ومادة للتشهي والغزل العاري المكشوف . . فجاء الإسلام ليرفع عنها هذا كله ، ويردها إلى مكانها الطبيعي في كيان الأسرة وإلى دورها الجدي في نظام الجماعة البشرية . المكان الذي يتفق مع المبدأ العام الذي قرره في مفتتح هذه السورة : ( الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) . . ثم ليرفع مستوى المشاعر الإنسانية في الحياة الزوجية من المستوى الحيواني الهابط إلى المستوى الإنساني الرفيع ، ويظللها بظلال الاحترام والمودة والتعاطف والتجمل ؛ وليوثق الروابط والوشائج ، فلا تنقطع عند الصدمة الأولى ، وعند الانفعال الأول :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة - وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا . وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا . أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، وأخذن منكم ميثاقا غليظا ؟ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
كان بعضهم في الجاهلية العربية - قبل أن ينتشل الإسلام العرب من هذه الوهدة ويرفعهم إلى مستواه الكريم - إذا مات الرجل منهم فأولياؤه أحق بامرأته ، يرثونها كما يرثون البهائم والمتروكات ! إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها وأخذوا مهرها - كما يبيعون البهائم والمتروكات ! - وإن شاءوا عضلوها وأمسكوها في البيت . دون تزويج ، حتى تفتدي نفسها بشيء . .
وكان بعضهم إذا توفي عن المرأة زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه ، فمنعها من الناس ، وحازها كما يحوز السلب والغنيمة ! فإن كانت جميلة تزوجها ؛ وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي نفسها منه بمال ! فأما إذا فاتته فانطلقت إلى بيت أهلها قبل أن يدركها فيلقي عليها ثوبه ، فقد نجت وتحررت وحمت نفسها منه !
وكان بعضهم يطلق المرأة ، ويشترط عليها ألا تنكح إلا من أراد ؛ حتى تفتدي نفسها منه ، بما كان أعطاها . . كله أو بعضه !
وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا امرأته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها !
وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها ، فيحبسها عن الزواج ، حتى يكبر إبنه الصغير ليتزوجها ، ويأخذ مالها !
وهكذا . وهكذا . مما لا يتفق مع النظرة الكريمة التي ينظر بها الإسلام لشقي النفس الواحدة ؛ ومما يهبط بإنسانية المرأة وإنسانية الرجل على السواء . . ويحيل العلاقة بين الجنسين علاقة تجار ، أو علاقة بهائم !
ومن هذا الدرك الهابط رفع الإسلام تلك العلاقة إلى ذلك المستوى العالي الكريم ، اللائق بكرامة بني آدم ، الذين كرمهم الله وفضلهم على كثير من العالمين . فمن فكرة الإسلام عن الإنسان ، ومن نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية ، كان ذلك الارتفاع ، الذي لم تعرفه البشرية إلا من هذا المصدر الكريم .
حرم الإسلام وراثة المرأة كما تورث السلعة والبهيمة ، كما حرم العضل الذي تسامه المرأة ، ويتخذ أداة للإضرار بها - إلا في حالة الإتيان بالفاحشة ، وذلك قبل أن يتقرر حد الزنا المعروف - وجعل للمرأة حريتها في اختيار من تعاشره ابتداء أو استئنافا . بكرا أم ثيبا مطلقة أو متوفى عنها زوجها . وجعل العشرة بالمعروف فريضة على الرجال - حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة - ونسم في هذه الحالة نسمة الرجاء في غيب الله وفي علم الله . كي لا يطاوع المرء انفعاله الأول ، فيبت وشيجة الزوجية العزيزة . فما يدريه أن هنالك خيرا فيما يكره ، هو لا يدريه . خيرا مخبوءا كامنا ، لعله إن كظم انفعاله واستبقى زوجة سيلاقيه :
( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن - إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وعاشروهن بالمعروف . فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ، ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
وهذه اللمسة الأخيرة في الآية ، تعلق النفس بالله ، وتهدىء من فورة الغضب ، وتفثأ من حدة الكره ، حتى يعاود الإنسان نفسه في هدوء ؛ وحتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهب الرياح . فهي مربوطة العرى بالعروة الوثقى . العروة الدائمة . العروة التي تربط بين قلب المؤمن وربه ، وهي أوثق العرى وأبقاها .
والإسلام الذي ينظر إلى البيت بوصفه سكنا وأمنا وسلاما ، وينظر إلى العلاقة بين الزوجين بوصفها مودة ورحمة وأنسا ، ويقيم هذه الآصرة على الاختيار المطلق ، كي تقوم على التجاوب والتعاطف والتحاب . . هو الإسلام ذاته الذي يقول للأزواج : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . كي يستأني بعقدة الزوجية فلا تفصم لأول خاطر ، وكي يستمسك بعقدة الزوجية فلا تنفك لأول نزوة ، وكي يحفظ لهذه المؤسسة الإنسانية الكبرى جديتها فلا يجعلها عرضة لنزوة العاطفة المتقلبة ، وحماقة الميل الطائر هنا وهناك . .
وما أعظم قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرجل أراد أن يطلق زوجه " لأنه لا يحبها " . . " ويحك ! ألم تبن البيوت إلا على الحب ؟ فأين الرعاية وأين التذمم ؟ " . .
وما أتفه الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم " الحب " وهم يعنون به نزوة العاطفة المتقلبة ، ويبيحون باسمه - لا انفصال الزوجين وتحطيم المؤسسة الزوجية - بل خيانة الزوجة لزوجها ! أليست لا تحبه ؟ ! وخيانة الزوج لزوجته ! أليس أنه لا يحبها ؟ !
وما يهجس في هذه النفوس التافهة الصغيرة معنى أكبر من نزوة العاطفة الصغيرة المتقلبة ، ونزوة الميل الحيواني المسعور . ومن المؤكد أنه لا يخطر لهم أن في الحياة من المروءة والنبل والتجمل والاحتمال ، ما هو أكبر وأعظم من هذا الذي يتشدقون به في تصور هابط هزيل . . ومن المؤكد طبعا أنه لا يخطر لهم خاطر . . الله . . فهم بعيدون عنه في جاهليتهم المزوقة ! فما تستشعر قلوبهم ما يقوله الله للمؤمنين : ( فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . .
إن العقيدة الإيمانية هي وحدها التي ترفع النفوس ، وترفع الاهتمامات ، وترفع الحياة الإنسانية عن نزوة البهيمة ، وطمع التاجر ، وتفاهة الفارغ !
قال البخاري : حدثنا محمد بن مُقَاتل ، حدثنا أسْبَاط بن محمد ، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السَّوَائي ، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضُهم تزوجها ، وإن شاءوا زَوَّجُوها ، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك .
هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مَرْدُويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم{[6827]} .
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي ، حدثني علي بن حُسَين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وذلك أن الرجل كان{[6828]} يرث امرأة ذي قرابته ، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها ، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
تفرد به أبو داود{[6829]} وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو{[6830]} ذلك ، فقال وَكِيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا ، كان أحق بها ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }{[6831]} .
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى{[6832]} عليها حميمه{[6833]} ثوبه ، فمنعها من الناس . فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها .
وروى{[6834]} العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال زيد بن أسلم في الآية{[6835]} [ { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } ]{[6836]} كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضُلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة{[6837]} المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك . رواه ابن أبي حاتم .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى{[6838]} بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به . ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } الآية .
قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه .
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت ، فجنَحَ عليها ابنُه ، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح ، فنزلت هذه الآية .
وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب{[6839]} أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ ، فأنزل الله : [ تعالى ]{[6840]} { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه . رواه ابن أبي حاتم . ثم قال : ورُوِيَ عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مِجْلَز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك .
قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم .
وقوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي : لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك ، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } يقول : ولا تقهروهن { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } يعني : الرجل تكون له امرأة{[6841]} وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها{[6842]} لتفتدي .
وكذا قال الضحاك ، وقتادة [ وغير واحد ]{[6843]} واختاره ابن جرير .
وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرٌ قال : أخبرني سِمَاك بن الفضل ، عن ابن البَيْلمَاني{[6844]} قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمرالإسلام . قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } في الجاهلية { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } في الإسلام .
وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشَّعْبِيُّ ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومجاهد ، وعِكْرَمَة ، وعَطاء الخراسانيّ ، والضَّحَّاك ، وأبو قِلابةَ ، وأبو صالح ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ]{[6845]} } الآية[ البقرة : 229 ] .
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النُّشوز والعِصْيان .
واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبَذاء اللسان ، وغير ذلك .
يعني : أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ]{[6846]} في قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك .
قال{[6847]} عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام .
قال عبد الرحمن بن زيد : كان العَضْل في قريش بمكة ، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن{[6848]} لا تُزوّج{[6849]} إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن{[6850]} لها ، وإلا عَضلها . قال : فهذا قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } الآية .
وقال مجاهد في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } هو كالعضل في سورة البقرة .
وقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : طيِّبُوا أقوالكم لهن ، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 228 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي " {[6851]} وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ ، يُداعِبُ أهلَه ، ويَتَلَطَّفُ بهم ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته ، ويُضاحِك نساءَه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك . قالت : سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني ، فقال : " هذِهِ بتلْك " {[6852]} ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل{[6853]} منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] .
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب " الأحكام " ، ولله الحمد .
وقوله تعالى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [ وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ]{[6854]} } أي : فعَسَى أن يكون صبركم مع{[6855]} إمساككم لهن وكراهتهن فيه ، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة . كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يَعْطف عليها ، فيرزقَ منها ولدًا . ويكون في ذلك الولد خير كثير{[6856]} وفي الحديث الصحيح : " لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة ، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر " {[6857]} .
اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } فقال ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته في أهلها ، إن شاؤوا تزوجها أحدهم ، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم ، وإن شاؤوا منعوها الزواج ، فنزلت الآية في ذلك ، قال أبو أمامة بن سهل بن حنيف{[3908]} : لما توفي أبو قيس بن الأسلت{[3909]} ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، ذكر النقاش : أن اسم ولد أبي قيس محصن .
قال القاضي أبو محمد : كانت هذه السيرة في الأنصار لازمة ، وكانت في قريش مباحة مع التراضي ، ألا ترى أن أبا عمرو بن أمية ، خلف على امرأة أبيه بعد موته ، فولدت من أبي عمرو مسافراً وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ، فكان بنو أمية إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامها ، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز ، قال عكرمة : نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها ، وقال السدي : كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه ، فهو أحق بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها .
قال القاضي أبو محمد : والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية ، ولا منفعة في ذكر جميع ذلك ، إذ قد أذهبه الله بقوله : { لا يحل لكم } ومعنى الآية على هذا القول : { لا يحل لكم } أن تجعلوا النساء كالمال ، يورَثن عن الرجال الموتى ، كما يورث المال ، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى ، وقال بعض المتأولين : معنى الآية : { لا يحل لكم } عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي ، وروي نحو هذا عن ابن عباس وغيره ، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن ، إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية أن يرثوهن{[3910]} .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير : «كَرهاً » بفتح الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف ، وقرأ حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف ، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء والتوبة بفتح الكاف ، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها ، والكَره والكُره لغتان كالضعف والضعف ، والفقر والفقر ، قاله أبو علي ، وقال الفراء : هو بضم الكاف المشقة وبفتحها إكراه غير ، وقاله ابن قتيبة ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { ولا تعضلوهن } الآية ، فقال ابن عباس وغيره : هي أيضاً في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة ، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة ، وقال نحوه الحسن وعكرمة .
قال القاضي أبو محمد : ويجيء في قوله : { آتيتموهن } خلط أي ما آتاها الرجال قبل ، فهي كقوله : { فاقتلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ] وغير ذلك وقال ابن عباس أيضاً : هي في الأزواج ، في الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه ، فذلك لا يحل له ، وقال مثله قتادة ، وقال ابن البيلماني : الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية ، والثاني في العضل ، هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضراراً للفدية ، وقال ابن مسعود ، معنى الآية : لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية ، { ولا تعضلوهن } في الإسلام ، وقال نحو هذا القول السدي والضحاك ، وقال السدي : هذه الآية خطاب للأولياء ، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة . قال القاضي أبو محمد : وهذا يقلق ، إلا أن يكون العضل من ولي وارث ، فهو يؤمل موتها ، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب ؟ وقال ابن زيد : هذا العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في قريش بمكة ، إذا لم يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد عليها بذلك ، فإذا خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل ، ففي هذا نزلت الآية .
قال القاضي أبو محمد : والذي أقول : إن العضل في اللغة الحبس في شدة ومضرة ، والمنع من الفرج في ذلك فمن ذلك قولهم : أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع البيضة ، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ ، ومنه داء عضال . ومشى عرف الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج ، وهو في اللغة أعم من هذا حسبما ذكرت ، يقع من ولي ومن زوج ، وأقوى ما في هذه الأقوال المتقدمة ، أن المراد الأزواج ، ودليل ذلك قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة } وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله ، وكذلك قوله : { وعاشروهن بالمعروف } إلى آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته ، وإن كان ذلك يحتمل أن يكون أمراً منقطعاً من الأول يخص به الأزواج ، وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في نازلة عاضلاً ، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها ولم يلتفت ، إلا الأب في بناته ، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولاً واحداً{[3911]} ، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أحدهما أنه كسائر الأولياء : يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه ، والقول الآخر إنه لا يعرض له ، ويحتمل قوله : { ولا تعضلوهن } أن يكون جزماً ، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى ، ويحتمل أن يكون { تعضلوهن } نصباً عطفاً على { ترثوا } فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل ، وقرأ ابن مسعود : «ولا أن تعضلوهن » فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحل بالنص ، وعلى تأويل الجزم هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية ، واحتمال النصب أقوى ، واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هو الزنا ، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه ، وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه ، وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن ، وقال عطاء الخراساني : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود ، وهذا قول ضعيف ، وقال ابن عباس رحمه الله : «الفاحشة » في هذه الآية البغض والنشوز ، وقاله الضحاك وغيره ، قالوا : فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو مذهب مالك ، إلا أني لا أحفظ له نصاً في معنى «الفاحشة » في هذه الآية ، وقال قوم «الفاحشة » البذاء باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً ، وهذا في معنى النشوز ، ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع ، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركوناً إلى قوله تعالى : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال مالك وأصحابه وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك .
قال القاضي أبو محمد : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى ، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال ، وقرأ ابن مسعود : «إلا أن يفحشن وعاشروهن » .
قال القاضي أبو محمد : وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام ، وكذلك ذكر أبو عمرو عن ابن عباس وعكرمة وأبيّ بن كعب ، وفي هذا نظر ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «مبينة » و «آيات مبينَّات » بفتح الياء فيهما ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم : «مبينة » و «مبيِّنات » - بكسر الياء فيهما ، وقرأ نافع وأبو عمرو : «مبيَّنة » بالكسر ، و «مبيَّنات » بالفتح - وقرأ ابن عباس : «بفاحشة مبينة » بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء ، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة ، يقال : بين الشيء وأبان : إذا ظهر ، وبان الشيء وبينته ، وقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } أمر للجميع ، إذ لكل أحد عشرة ، زوجاً كان أو ولياً ، ولكن المتلبس في الأغلب بهذا الأمر الأزواج ، والعشرة المخالطة والممازجة ، ومنه قول طرفة{[3912]} : [ الرمل ]
فَلَئِنْ شَطَّتْ نَوَاهَا مَرَّةً *** لَعَلَى عَهْدٍ حبيب معتشر
جعل - الحبيب - جمعاً كالخليط والفريق ، يقال : عاشره معاشرة ، وتعاشر القوم واعتشروا ، وأرى اللفظة من أعشار الجزور ، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة جميلة ، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء ، وإلى هذا ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «فاستمتع بها وفيها عوج »{[3913]} ، ثم أدب تعالى عباده بقوله : { فإن كرهتموهن } إلى آخر الآية : قال السدي : الخير الكثير في المرأة : الولد ، وقال نحوه ابن عباس .
قال القاضي أبو محمد : ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة< شيء> لأنه يطرد هذا النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه ، فيحسن الصبر ، إذ عاقبته إلى خير ، إذا أريد به وجه الله .