يقال : عاشروا ، وتعاشروا ، واعتشروا .
وكان ذلك من أعشار الجذور ، لأنها مقاسمة ومخالطة .
{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } قال ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو مجلز : كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها ، إن شاؤوا تزوجها أحدهم ، أو زوجوها غيرهم ، أو منعوها .
وكان ابنه من غيرها يتزوجها ، وكان ذلك في الأنصار لازماً ، وفي قريش مباحاً .
وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه ، إذا لم يكن ولدها .
وقال السدي : إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها ، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فأذهب الله ذلك بهذه الآية .
والخطاب على هذا للأولياء نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال .
والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة ، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية ، فخرج هذا الكره مخرج الغالب ، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها .
وقيل : هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن ، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها ، فيتزوجها كرهاً لأجله .
أو تحته عجوز ذات مال ، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها ، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها ، أو تموت فيرث مالها .
والخطاب للأزواج ، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن ، لا هن .
وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء ، فيقدر باسم فاعل أي : كارهات ، أو باسم مفعول أي : مكرهات .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : وبفتح الكاف ، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها ، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة ، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين ، وهما لغتان : كالصمت والصمت قاله : الكسائي والأخفش وأبو علي .
وقال الفراء : الفتح بمعنى الإكراه ، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب ، وقاله : أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً .
وتقدّم الكلام عليه في قوله : { وهو كره لكم } في البقرة .
وقرئ : لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا تحل لكم الوراثة ، كقراءة من قرأ : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } أي إلا مقالتهم ، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات ، وإما على حذف مضاف أي : أموال النساء .
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن .
وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله : ببعض ما آتيتموهن ، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق .
وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر ، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله : ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي .
أو ينكح الشريفة فلا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها قاله : ابن زيد .
أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك .
وقيل : هو خطاب للأولياء كما بين في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله : { يا أيها الذين آمنوا } فلقوا في هذا الخطاب ، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه ، فخوطب الأولياء بقوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ، وخوطب الأزواج بقوله : ولا تعضلوهن ، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه .
وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله : { فلا تعضلوهن } والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية ، أي : لتذهبوا بعض ما آتيتموهن .
ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن .
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } هذا استثناء متصل ، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم .
وهو استثناء من ظرف زمان عام ، أو من علة .
كأنه قيل : ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين .
أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين .
والظاهر أن الخطاب بقوله : ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما تبين .
والفاحشة هنا الزنا قاله : أبو قلابة والحسن .
قال الحسن : إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة ، وردت إلى زوجها ما أخذت منه .
وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه .
وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .
وقال عطاء : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود .
وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها .
وقال قتادة : لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه ، يعني : وإن زنت .
وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم : الفاحشة هنا النشوز ، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ، وهذا مذهب مالك وقال قوم : الفاحشة البذأ باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً وهذا في معنى النشوز .
والمعنى : إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن ، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع .
ويدل على هذا المعنى قراءة أبي : إلا أن يفحشن عليكم ، وقراءة ابن مسعود : إلا أن يفحشن وعاشروهن ، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام ، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة .
والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح ، لا على أن ذلك قرآن .
ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركوناً لقوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال مالك : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه .
وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله ، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة .
وقرأ ابن كثير وأبو بكر : مبينة هنا ، وفي الأحزاب ، والطلاق بفتح الياء ، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها .
وقرأ الباقون : بالكسر أي : بينة في نفسها ظاهرة .
وهي اسم فاعل من بين ، وهو فعل لازم بمعنى بان أي ظهر ، وظاهر قوله : ولا تعضلوهن ، أن لا نهى ، فالفعل مجزوم بها ، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية .
فإن قلنا : شرط عطف الجمل المناسبة ، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال : لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن .
وإن قلنا : لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه ، فظاهر .
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً على فعل .
وقرأ ابن مسعود : ولا أن تعضلوهن ، فهذه القراء تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ .
وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة ، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه ، وهو لا يجوز .
وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين ، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف ، لا بعد لا .
فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، فالتقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت ، والثاني على سبيل النفي .
فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار .
فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً ، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح ، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر .
وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح .
وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج ، وقولك : لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج ، ففي الأول : نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أراد خروجه .
وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه ، ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج .
وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية .
{ وعاشروهن بالمعروف } هذا أمر بحسن المعاشرة ، والظاهر أنه أمر للأزواج ، لأن التلبس بالمعاشرة غالباً إنما هو للأزواج ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء ، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة ، والإجمال في القول .
ويقال : المرأة تسمن من أذنها .
{ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } أدب تعالى عباده بهذا .
والمعنى : أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة ، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه ، كما قال تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة ، وما أحبته يكون بضد ذلك .
ولما كانت عسى فعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب ، وعسى هنا تامّة ، فلا تحتاج إلى اسم وخبر .
والضمير في فيه عائد على شيء أي : ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه .
( وقيل ) : عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل .
وفسر ابن عباس والسدي : الخير بالولد الصالح ، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر .
وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً ، حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن ، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن .
وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن ، وإن كره الإنسان منهن شيئاً من أخلاقهن .
ولذلك جاء بعده : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج .
( وقيل ) : معنى الآية : ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن ، كقوله : { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } قاله الأصم : وهذا القول بعيد من سياق الآية ، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها .
وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر ، ويقال : ما تعاشر إثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر .
وفي صحيح مسلم : « لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر » وأنشدوا في هذا المعنى :
ومن لا يغمض عينه عن صديقه *** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب