البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} (19)

العشرة : الصحبة والمخالطة .

يقال : عاشروا ، وتعاشروا ، واعتشروا .

وكان ذلك من أعشار الجذور ، لأنها مقاسمة ومخالطة .

{ يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } قال ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو مجلز : كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها ، إن شاؤوا تزوجها أحدهم ، أو زوجوها غيرهم ، أو منعوها .

وكان ابنه من غيرها يتزوجها ، وكان ذلك في الأنصار لازماً ، وفي قريش مباحاً .

وقال مجاهد : كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه ، إذا لم يكن ولدها .

وقال السدي : إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق بها ، أو سبقته إلى أهلها كانت أحق بنفسها ، فأذهب الله ذلك بهذه الآية .

والخطاب على هذا للأولياء نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن الموتى كما يورث المال .

والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة ، لا جوازها في حال الطوع استدلالاً بالآية ، فخرج هذا الكره مخرج الغالب ، لأن غالب أحوالهن أن يكنّ مجبورات على ذلك إذ كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها .

وقيل : هو إمساكهن دون تزويج حتى يمتن فيرثون أموالهن ، أو في حجرة يتيمة لها مال فيكره أن يزوجها غيره محافظة على مالها ، فيتزوجها كرهاً لأجله .

أو تحته عجوز ذات مال ، ويتوق إلى شابة فيمسك العجوز لمالها ، ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها ، أو تموت فيرث مالها .

والخطاب للأزواج ، وعلى هذا القول وما قبله يكون الموروث مالهن ، لا هن .

وانتصب كرهاً على أنه مصدر في موضع الحال من النساء ، فيقدر باسم فاعل أي : كارهات ، أو باسم مفعول أي : مكرهات .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو : وبفتح الكاف ، حيث وقع وحمزة والكسائي بضمها ، وعاصم وابن عامر بفتحها في هذه السورة وفي التوبة ، وبضمها في الأحقاف وفي المؤمنين ، وهما لغتان : كالصمت والصمت قاله : الكسائي والأخفش وأبو علي .

وقال الفراء : الفتح بمعنى الإكراه ، والضم من فعلك تفعله كارهاً له من غير مكره كالأشياء التي فيها مشقة وتعب ، وقاله : أبو عمرو بن العلاء وابن قتيبة أيضاً .

وتقدّم الكلام عليه في قوله : { وهو كره لكم } في البقرة .

وقرئ : لا تحل لكم بالتاء على تقدير لا تحل لكم الوراثة ، كقراءة من قرأ : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } أي إلا مقالتهم ، وانتصاب النساء على أنه مفعول به إمّا لكونهن هن أنفسهن الموروثات ، وإما على حذف مضاف أي : أموال النساء .

{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } أي لا تحبسوهن ولا تضيقوا عليهن .

وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج لقوله : ببعض ما آتيتموهن ، لأن الزوج هو الذي أعطاها الصداق .

وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر ، فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه قاله : ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي .

أو ينكح الشريفة فلا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، ويشهد على ذلك ، فإذا خطبت وأرضته أذن لها ، وإلا عضلها قاله : ابن زيد .

أو كانت عادتهم منع المطلقة من الزوج ثلاثاً فنهوا عن ذلك .

وقيل : هو خطاب للأولياء كما بين في قوله : { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله : { يا أيها الذين آمنوا } فلقوا في هذا الخطاب ، ثم أفرد كل في النهي بما يناسبه ، فخوطب الأولياء بقوله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ، وخوطب الأزواج بقوله : ولا تعضلوهن ، فعاد كل خطاب إلى من يناسبه .

وتقدّم تفسير العضل في البقرة في قوله : { فلا تعضلوهن } والباء في ببعض ما آتيتموهن للتعدية ، أي : لتذهبوا بعض ما آتيتموهن .

ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ما آتيتموهن .

{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } هذا استثناء متصل ، ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم .

وهو استثناء من ظرف زمان عام ، أو من علة .

كأنه قيل : ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين .

أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لأن يأتين .

والظاهر أن الخطاب بقوله : ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج على ما تبين .

والفاحشة هنا الزنا قاله : أبو قلابة والحسن .

قال الحسن : إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة ، وردت إلى زوجها ما أخذت منه .

وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشق عليها حتى تفتدي منه .

وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .

وقال عطاء : كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود .

وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها .

وقال قتادة : لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى تفتدي منه ، يعني : وإن زنت .

وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم : الفاحشة هنا النشوز ، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ، وهذا مذهب مالك وقال قوم : الفاحشة البذأ باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً وهذا في معنى النشوز .

والمعنى : إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن ، فيجوز أخذ مالهن على سبيل الخلع .

ويدل على هذا المعنى قراءة أبي : إلا أن يفحشن عليكم ، وقراءة ابن مسعود : إلا أن يفحشن وعاشروهن ، وهما قراءتان مخالفتان لمصحف الإمام ، وكذا ذكر الداني عن ابن عباس وعكرمة .

والذي ينبغي أن يحمل عليه أن ذلك على سبيل التفسير والإيضاح ، لا على أن ذلك قرآن .

ورأى بعضهم أن لا يتجاوز ما أعطاها ركوناً لقوله : { لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } وقال مالك : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملكه .

وظاهر الاستثناء يقتضي إباحة العضل له ليذهب ببعض ما أعطاها لأكله ، ولا ما لم يعطها من ماله إذا أتت بالفاحشة المبينة .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر : مبينة هنا ، وفي الأحزاب ، والطلاق بفتح الياء ، أي أي يبينها من يدعيها ويوضحها .

وقرأ الباقون : بالكسر أي : بينة في نفسها ظاهرة .

وهي اسم فاعل من بين ، وهو فعل لازم بمعنى بان أي ظهر ، وظاهر قوله : ولا تعضلوهن ، أن لا نهى ، فالفعل مجزوم بها ، والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية .

فإن قلنا : شرط عطف الجمل المناسبة ، فالمناسبة أن تلك الخبرية تضمنت معنى النهي كأنه قال : لا ترثوا النساء كرهاً فإنه غير حلال لكم ولا تعضلوهن .

وإن قلنا : لا يشترط في العطف المناسبة وهو مذهب سيبويه ، فظاهر .

وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصباً عطفاً على ترثوا ، فتكون الواو مشركة عاطفة فعلاً على فعل .

وقرأ ابن مسعود : ولا أن تعضلوهن ، فهذه القراء تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يحلّ بالنصّ .

وعلى تأويل الجزم هي نهي معوض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة ، واحتمال النصب أقوى انتهى ما ذكره من تجويز هذا الوجه ، وهو لا يجوز .

وذلك أنك إذا عطفت فعلاً منفياً بلا على مثبت وكانا منصوبين ، فإنّ الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف ، لا بعد لا .

فإذا قلت : أريد أن أتوب ولا أدخل النار ، فالتقدير : أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار ، لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت ، والثاني على سبيل النفي .

فالمعنى : أريد التوبة وانتفاء دخولي النار .

فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفياً ، فكذلك ولو قدّرت هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت : لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح ، إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية ، وهو خلاف الظاهر .

وأما أن تقدر أن بعد لا النافية فلا يصح .

وإذا قدرت أنّ بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وظن أنه بصلاحية تقدير أن بعد لا يكون من عطف الفعل على الفعل ، وفرق بين قولك : لا أريد أن يقوم وأن لا يخرج ، وقولك : لا أريد أن يقوم ولا أن يخرج ، ففي الأول : نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه ، فقد أراد خروجه .

وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه ، ووجود خروجه ، فلا يريد لا القيام ولا الخروج .

وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية .

.

{ وعاشروهن بالمعروف } هذا أمر بحسن المعاشرة ، والظاهر أنه أمر للأزواج ، لأن التلبس بالمعاشرة غالباً إنما هو للأزواج ، وكانوا يسيئون معاشرة النساء ، وبالمعروف هو النصفة في المبيت والنفقة ، والإجمال في القول .

ويقال : المرأة تسمن من أذنها .

{ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } أدب تعالى عباده بهذا .

والمعنى : أنه لا تحملكم الكراهة على سوء المعاشرة ، فإن كراهة الأنفس للشيء لا تدل على انتفاء الخير منه ، كما قال تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } ولعل ما كرهت النفس يكون أصلح في الدين وأحمد في العاقبة ، وما أحبته يكون بضد ذلك .

ولما كانت عسى فعلاً جامداً دخلت عليه فاء الجواب ، وعسى هنا تامّة ، فلا تحتاج إلى اسم وخبر .

والضمير في فيه عائد على شيء أي : ويجعل الله في ذلك الشيء المكروه .

( وقيل ) : عائد على الكره وهو المصدر المفهوم من الفعل .

( وقيل ) : عائد على الصبر .

وفسر ابن عباس والسدي : الخير بالولد الصالح ، وهو على سبيل التمثيل لا الحصر .

وانظر إلى فصاحة فعسى أن تكرهوا شيئاً ، حيث علّق الكراهة بلفظ شيء الشامل شمول البدل ، ولم يعلق الكراهة بضميرهن ، فكان يكون فعسى أن تكرهوهن .

وسياق الآية يدل على أن المعنى الحث على إمساكهن وعلى صحبتهن ، وإن كره الإنسان منهن شيئاً من أخلاقهن .

ولذلك جاء بعده : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج .

( وقيل ) : معنى الآية : ويجعل الله في فراقكم لهنّ خيراً كثيراً لكم ولهن ، كقوله : { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } قاله الأصم : وهذا القول بعيد من سياق الآية ، ومما يدل عليه ما قبلها وما بعدها .

وقلّ أن ترى متعاشرين يرضى كل واحد منهما جميع خلق الآخر ، ويقال : ما تعاشر إثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر .

وفي صحيح مسلم : « لا يفزك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر » وأنشدوا في هذا المعنى :

ومن لا يغمض عينه عن صديقه *** وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهداً كل عثرة *** يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

/خ28