( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا19 ) .
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ) نهى عما كان يفعله أهل الجاهلية بالنساء من الايذاء والظلم . روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما{[1589]} قال : " كانوا ، إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحق بامرأته . ان شاء بعضهم تزوجها ، وان شاءوا زوجوها ، وان شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها . فنزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ) . الآية " . ورواه أبو داود والنسائي وغيرهم ، ولفظ أبي داود عن ابن عباس : " أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته . فيعضلها حتى تموت ، أو ترد إليه صداقها : فأحكم الله عن ذلك " . أي نهى عنه .
قال السيوطي : ففيه أن الحر لا يتصور ملكه ولا دخوله تحت اليد . ولا يجري مجرى الأموال بوجه . و ( كرها ) ( بفتح الكاف وضمها ) قراءتان . أي حال كونهن كارهات لذلك ! أو مكرهات عليه . والتقييد ( بالكره ) لا يدل على الجواز عند عدمه . لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه . كما في قوله : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق ) {[1590]} . ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) الخطاب للأزواج . كما عليه أكثر المفسرين . روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس{[1591]} " أن الآية في الرجل تكون له المرأة . وهو كاره لصحبتها . ولها عليه مهر . فيضرها لتفتدي به " . والعضل الحبس والتضييق . / أي : ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . أي من الصداق . بأن يدفعن اليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن ( الا أن يأتين بفاحشة مبينة ) أي زنى . كما قاله جماعة من الصحابة والتابعين . يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك ، وتخالعها . كما قال تعالى في سورة البقرة : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ) {[1592]} . الآية .
وروي عن ابن عباس أيضا وغيره : " الفاحشة المبينة النشوز والعصيان " . واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله : الزنى والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك . يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ، ويفارقها . قال ابن كثير : وهذا جيد ، والله أعلم . قال أبو السعود : ( مبينة ) على صيغة الفاعل من ( بين ) بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول . وعلى صيغة الفاعل من ( أبان ) بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وايذاء الزوج وأهله بالبذاء والسلاطة . ويعضده قراءة أبي : ( الا أن يفحشن عليكم ) . انتهى . وفي ( الاكليل ) استدل قوم بقوله : ( ببعض ما آتيتموهن ) – على منع الخلع بأكثر مما أعطاها انتهى .
ثم بين تعالى حق الصحبة مع الزوجات بقوله : ( وعاشروهن ) أي صاحبوهن ( بالمعروف ) أي بالانصاف في الفعل والاجمال في القول حتى لا تكونوا سبب الزنى بتركهن . أو سبب النشوز أو سوء الخلق . فلا يحل لكم حينئذ .
قال السيوطي في ( الاكليل ) : في الآية وجوب المعروف من توفية المهر والنفقة والقسم / واللين في القول وترك الضرب والاغلاظ بلا ذنب . واستدل بعمومها من أوجب لها الخدمة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها ( فان كرهتموهن ) يعني كرهتمو الصحبة معهن ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) أي ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا يكون فيه خير كثير . وبأن ينيلكم الثواب الجزيل في العقبى بالانفاق عليهن والاحسان اليهن ، على خلاف الطبع . وفي ( الاكليل ) قال الكيا الهراسي : في هذه الآية استحباب الامساك بالمعروف وان كان على خلاف هوى النفس . وفيها دليل على أن الطلاق مكروه .
وقد روى مسلم{[1593]} في ( صحيحه ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة . ان كره منها خلقا رضي منها آخر " . ( ويفرك ) بفتح الياء والراء ، معناه يبغض .
قال أبو السعود : ذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه ، وانحصار العلية في الثاني ، للتوسل إلى تعميم مفعوله –ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه . بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق ، حسب اقتضاء الحكمة . وان ما نحن فيه مادة من موادها . وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ، ما لا يخفى .
تنبيه جليل في الوصية بالنساء والإحسان إليهن :
كفى في هذا الباب هذه الآية الجليلة الجامعة . وهي قوله تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف ) . فال ابن كثير : أي طيبوا أقوالكم لهن . وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم . كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله . كما قال تعالى : / ( ولهن مثل الذي عليهن ) {[1594]} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي " . رواه الترمذي عن عائشة ، وابن ماجة{[1595]} عن ابن عباس ، والطبراني عن معاوية . وقال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم للنساء " . رواه الحاكم عن ابن عباس . وقال صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي . ما أكرم النساء الا كريم ، ولا أهانهن الا لئيم " . رواه ابن عساكر عن علي عليه السلام . وعن عمر بن الأحوص رضي الله عنه " أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول ، بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه ، وذكر ووعظ ، ثم قال ألا واستوصوا بالنساء خيرا . فانما هن عوان عندكم . ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك الا أن يأتين بفاحشة مبينة . فان فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح . فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا . ألا ان لكم على نسائكم حقا . ولنسائكم عليكم حقا . فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون . ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون . ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا اليهن في كسوتهن وطعامهن " . رواه الترمذي{[1596]} وقال : حديث حسن صحيح .
وقوله ( عوان ) أي أسيرات . جمع عانية .
وعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : " قلت : يا رسول الله ! ما حق زوجة أحدنا عليه ؟ / قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " . رواه أبو داود{[1597]} .
وعن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس{[1598]} من اللهو الا ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، ورميه بقوسه ونبله ، ومداعبة أهله " .
قال ابن كثير : وكان من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقة ، ويضاحك نساءه . حتى انه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، يتودد اليها بذلك . قالت : " سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته " . وذلك قبل أن أحمل اللحم . ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني . فقال : هذه بتلك " . وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نساءه في شعار واحد . يضع عن كتفيه الرداء وينام بالازار . وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام . يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم . وقد قال الله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) . انتهى .
/ وقال الغزالي في ( الاحياء ) في ( آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح ) : الأدب الثاني –حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ، ترحما عليهن ، لقصور عقلهن . قال الله تعالى : ( وعاشروهن بالمعروف ) ، وقال في تعظيم حقهن : ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) {[1599]} . وقال تعالى : ( والصاحب بالجنب ) {[1600]} . قيل : هي المرأة .
ثم قال : واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها ، والحلم عند طيشها وغضبها ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه . فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام ، وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل . وراجعت امرأة عمر عمر رضي الله عنه فقال : " أتراجعيني ؟ فقالت : ان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه ، وهو خير منك " {[1601]} . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة{[1602]} : " اني لأعلم إذا كنت عني راضية واذا كنت علي غضبى . قالت : فقلت : من أين تعرف ذلك ؟ فقال : أما إذا كنت عني راضية فانك تقولين : لا . ورب محمد ! واذا كنت غضبى قلت : لا . ورب ابراهيم ! قالت قلت : أجل . والله ! يا رسول الله ! ما أهجر الا اسمك " .
/ ثم قال الغزالي : الثالث –أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة . فهي التي تطيب قلوب النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال . حتى روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يسابق عائشة في العدو فسبقته يوما وسبقها في بعض الأيام . فقال صلى الله عليه وسلم : " هذه بتلك " .
قال العراقي : رواه أبو داود{[1603]} ، والنسائي في ( الكبرى ) وابن ماجة من حديث عائشة بسند صحيح .
وقالت عائشة رضي الله عنها : " سمعت أصوات أناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون في يوم عيد . فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحبين أن تري لعبهم ؟ قالت قلت : نعم . فأرسل إليهم فجاؤوا . وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين البابين . فوضع كفه على الباب ووضعت رأسي على منكبه . وجعلوا يلعبون وأنظر . وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حسبك ! وأقول : لا تعجل . ( مرتين أو ثلاثا ) ثم قال : يا عائشة ! حسبك . فقلت نعم " . وفي رواية للبخاري{[1604]} قالت : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد . حتى أكون أنا الذي أسأم . فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، الحريصة على اللهو " .
وقال عمر رضي الله عنه : " ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي . فاذا التمسوا ما عنده وجد رجلا " .
وقال لقمان رحمه الله تعالى : " ينبغي للعاقل أن يكون في أهله كالصبي . واذا كان في القوم وجد رجلا " .
/ وقال صلى الله عليه وسلم{[1605]} لجابر : " هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ؟ " رواه الشيخان . ووصفت أعرابية زوجها وقد مات فقالت : والله ! لقد كان ضحوكا إذا ولج ، سكوتا إذا خرج ، آكلا ما وجد ، غير سائل عما فقد . انتهى بتصرف .