فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا يَحِلُّ لَكُمۡ أَن تَرِثُواْ ٱلنِّسَآءَ كَرۡهٗاۖ وَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ لِتَذۡهَبُواْ بِبَعۡضِ مَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ فَإِن كَرِهۡتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا} (19)

هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات ، والمقصود نفي الظلم عنهنّ ، والخطاب للأولياء ، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها ، وهو ما أخرجه البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النساء كَرْهاً } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت . وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى يموت ، أو تردّ إليه صداقها . وفي لفظ لابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت ، فيرثها . وقد روي هذا السبب بألفاظ ، فمعنى قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النساء كَرْهاً } أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث ، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم ، وتحبسونهن لأنفسكم { وَلاَ } يحل لكم أن { تَعْضُلُوهُنَّ } عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن ، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح . قال الزهري ، وأبو مجلز : كان من عاداتهم إذا مات الرجل ، وله زوجة ألقى ابنه من غيرها ، أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة ، فيصير أحق بها من نفسها ، ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره ، وأخذ صداقها ، ولم يعطها شيئاً ، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت ، أو تموت ، فيرثها ، فنزلت الآية .

وقيل : الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعاً في إرثهنّ ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ ، واختاره ابن عطية . قال : ودليل ذلك قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } إذا أتت بفاحشة ، فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة ، وإنما ذلك للزوج . قال الحسن : إذا زنت البكر ، فإنها تجلد مائة وتنفى ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل ، فلا بأس أن يضارّها ، ويشقّ عليها حتى تفتدى منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك ، فخذوا مهورهنّ . وقال قوم : الفاحشة البذاءة باللسان ، وسوء العشرة قولاً وفعلاً . وقال مالك ، وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك .

هذا كله على أن الخطاب في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } للأزواج ، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } لمن خوطب بقوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النساء كَرْهاً } فيكون المعنى : ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج : { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي : ما آتاهنّ من ترثونه : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج ، وتستعفّ من الزنا ، وكما أن جعل قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النساء كَرْهاً } خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه ، والأولى أن يقال : إن الخطاب في قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } للمسلمين ، أي : لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً ، كما كانت تفعله الجاهلية ، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم ، أي : تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهنّ ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر يفتدين به من الحبس ، والبقاء تحتكم ، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مبَيّنَةٍ } جاز لكم مخالعتهنّ ببعض ما آتيتموهنّ .

قوله : { مبَيّنَةٍ } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي بكسر الياء . وقرأ الباقون بفتحها . وقرأ ابن عباس : «مبينَةٍ » بكسر الباء ، وسكون الياء من أبان الشيء ، فهو مبين . قوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أي : بما هو معروف في هذه الشريعة ، وبين أهلها من حسن المعاشرة ، وهو خطاب للأزواج ، أو لما هو أعم ، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى ، والفقر ، والرفاعة ، والوضاعة : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ } لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ، ولا نشوز { فَعَسَى } أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة ، وتبدلها بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة ، وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته ، أي : فإن كرهتموهنّ ، فاصبروا : { فعسى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .

/خ22