ثم وجه القرآن نداء عاما إلى المؤمنين نهاهم فيه عما كان شائعا فى الجاهلية من ظلم للنساء ؛ وإهدار لكرامتهن ، وأمرهم بحسن معاشرتهن ، وبعدم أخذ شئ من حقوقهن فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين . . . . . مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( 19 ) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ( 20 ) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 21 )
قال القرطبى عند تفسيره للآية الأولى : اختلفت الروايات وأقوال المفسرين فى سبب نزولها ؛ فروى البخارى عن ابن عباس قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } .
وقال الزهرى وأبو مجلز : كان من دعاتهم إذا مات الرجل يلقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبة ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذى أصدقها الميت . وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها لتفتدى منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها . فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } . الآية .
وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدى منه بمالها أو تموت فيرث مالها فنزلت هذه الآية .
ثم قال القرطبى : والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه فى جاهليتهم ، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال . .
وهناك روايات أخرى فى سبب نزول هذه الآية هذه الآية ساقها ابن جرير وابن كثير وغيرهما ، وهى قريبة فى معناها ، مما أورده القرطبى ، لذا اكتفينا بما ساقه القرطبى .
وكلمة { كَرْهاً } قرأها حمزة والكسائى بضم الكاف . وقرأها الباقون بفتحها قال الكسائى : وهما لغتان بمعنى واحد . وقال الفراء : الكره - بفتح الكاف - بمعنى الإِكراه . وبالضم بمعنى المشقة . فما أكره عليه الإِنسان فهو كره - بالفتح - وما كان من جهة نفسه فهو كره - بالضم - .
والمعنى : يأيها الذين آمنوا وصدقوا بالحق الذى جاءهم من عند الله ، لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإِرث وهو كارهات لذلك أو مكرهات عليه ، لأن هذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمها الإِسلام لما فيها من ظلم للمرأة وإهانة لكرامتا .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : " كانوا يبلون النساء بضروب من البلايا ، ويظلموهن بأنواع من الظلم ، فزجروا عن ذلك . فقيل : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } أى : أن تأخذوهن على سبيل الإرث كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكروهات .
وقد وجه - سبحانه - النداء إلى المؤمنين فقال : { أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } ليعم الخطاب جميع الأمة ، فيأخذ لك مكلف فيها بحظه منه سواء أكان هذا المكلف من أولياء المرأة أم من الأزواج أم من الحكام من غيرهم . وفى مخاطبتهم بصفة الإِيمان تحريك لحرارة العقيدة فى قلوبهم ، وتحريض لهم على الاستجابة إلى ما يقتضيه الإِيمان من طاعة لشريعة الله - تعالى - .
وصيغة { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } صيغة تحريم صريح ؛ لأن الحل هو الإِباحة فى لسان العرب ولسان الشريعة . فنفيه يراجف معنى التحريم .
وليس النهى فى قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } منصبا على إرث أموالهن كما هو المعتاد ، وإنما النهى منصب على إرث المراة ذاتها كما كانوا يفعلون فى الجاهلية ؛ إذ كانوا يجعلون ذات المرأة كالمال فيرثونها من قريبهم كما يرثون ماله .
وقوله { كَرْهاً } مصدر منصوب على أنه حال من النساء . أى حال كونهن كارهات لذلك أو مكروهات عليه .
والتقييد بالكره لا يدل على الجواز عند عدمه ، لأن تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفى ما عداه ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } وقوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } نهى آخر عن بعض الأعمال السيئة التى كان أهل الجاهلية يعاملون بها المرأة . وهو معطوف على قوله : { أَن تَرِثُواْ . . . } . وأعيد حرف " لا " للتوكيد .
أى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ، ولا يحل لكم أن تعضلوهن .
وأصل العضل : التضييق والحبس والمنع . يقال : عضلت الناقة بولدها ، إذا نشب فى بطنها وتعسر عليه الخروج . وهو : أعضل به الأمر ، إذا اشتد وتعسر .
والمراد به هنا : منع المرأة من الزواج والتضييق عليها فى ذلك ، سواء أكان هذا المنع والتضييق من الزوج أم من غيره .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
يقول : ولا تقهروهن لتذهبوا ببعض ما آيتموهن ، يعنى الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيؤذيها لتفتدى - أى : لتفتدى نفسها منه بأن تترك له مالها عليه من مهر أو مال - .
وقيل : كان أولياء الميت يمنعون زوجته من التزوج بمن شاءت ، ويتركونها على ذلك حتى تدفع لهم ما أخذت من ميراث الميت ، أو حتى تموت فيرثوها .
والمعنى : لا يحل لكم - أيها المؤمنون - أن ترثوا النساء كرها ، ولا أن تمنعوهن من الزواج { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } من الصداق أو غيره ، بأن يدفعن إليكم بعضه اضطراراً فتأخذوه منهن ، فإن هذا الفعل يبغضه الله - تعالى - .
ويبدو لنا من سياق الآية أن النهى عن عضل المرأة هنا - وإن كان يتناول جميع المكلفين - ، إلا أن المعنى به الأزواج ابتداء ، لأنهم - فى الغالب - هم الذين كانوا يفعلون ذلك .
ولذا قال ابن جرير - بعد أن ذكر الأقوال فى المعنى بالخطاب فى قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } .
وأولى الأقوال التى ذكرناها بالصحة فى تأويل قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } قول من قال : " نهى الله زوج المرأة عن التضييق عليها ، والإِضرار بها ، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب ، لتفتدى منه ببعض ما آتاها من الصداق " .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة ، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل المرأة إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها . . ليأخذ منها ما آتاها . . . أو لوليها الذى إليه إنكاحها . ولما كان الولى معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا . كان معلوما أن الذى عنى الله - تعالى - بنهييه عن عضلها هو زوجها الذى له السبيل إلى عضلها ضرارا لتفتدى منه .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } متصل من أعم العلل والأسباب ، أى لا تعضلوهن لعلة من العلل أو لسبب من الأسباب إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . لسوء أخلاقهن ، وكاشفة عن أحوالهن . كالزنا والنشوز ، وسوء الخلق ، وإيذاء الزوج وأهله بالبذاء وفحش القول ونحوه ، فلكم العذر فى هذه الأحوال فى طلب الخلع منهن ، وأخذ ما أتيتموهن من المهر لوجود السبب من جهتهن لا من جهتكم .
والأصل فى هذا الحكم قوله - تعالى - { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا منقطع فيكون المعنى : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن لكن إن يأتين بفاحشة مبينة يحل لكم أخذ المهر الذى آتيتموهن إياه أو أخذ بعضه .
ثم أمر الله - تعالى - الرجال - وخصوصا الأزواج - بحسن معاشرة النساء فقال : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } .
والمعاشرة : مفاعلة من العشرة وهى المخالطة والمصاحبة .
أى : وصاحبوهن وعاملوهن بالمعروف ، أى بما حض عليه الشرع وارتضاه العقل من الأفعال الحميدة ، والأقوال الحسنة .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أى : طيبوا أقوالاكم لهن ، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم . كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت مثله . كما قال - تعالى - { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلى " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله ، ويتلطف بهم ، ويضاحك نساءه . حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين - رضى الله عنها - يتودد إليها بذلك . قالت : سابقنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته . وذلك قبل أن أحمل اللحم . ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقنى . فقال : هذه بتلك . وكان صلى الله عليه وسلم يجمع نساءه كل ليلة فى بيت التي يبيت عندها فيأكل معهن العشاء فى بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها . وكان ينام مع المرأة من نسائه فى شعار واحد . يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإِزار .
وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام .
يؤانس بذلك صلى الله عليه وسلم . وقد قال - تعالى - { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } هذا ، وللإِمام الغزالى كلام حسن فى كتابه الإِحياء عند حديثه عن آداب معاشرة النساء ، فقد قال ما ملخصه : ومن آداب المعاشرة حسن الخلق معهن ، واحتمال الأذى منهن ، ترحما عليهن ، لقصور عقلهن . قال - تعالى - : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } وقال فى تعظيم حقهن : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } .
ثم قال : واعلم أنه حسن الخلق معها كف الأذى عنها ، بل احتمال الأذى منها ، والحلم عن طيشها وغضبها ، اقتداء برسولا لله صلى الله عليه وسلم . فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام . ومن آداب المعاشرة - أيضا - أن يزيد على احتمال الأذى منها بالمداعبة والمزح والملاعبة ، فهى التى تطيب قلوب النساء . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن فى الأعمال .
وقال عمر - رضى الله عنه - ينبغى للرجل أن يكون فى أهله مثل الصبى . فإذا التمسوا ما معنده وجدوه رجلا .
وكان ابن عباس - رضى الله عنه - يقول : " إنى - لأتزين لامرأتى كما تتزين لى " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أنه لا يصح للرجال أن يسترسلوا فى كراهية النساء إن عرضت لهم أسباب الكراهية ، بل عليهم أن يغلبوا النظر إلى المحاسن ، ويتغاضوا عن المكاره فقال : - تعالى - : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } .
أى : فإن كرهتم صحبتهن وإمساكهن فلا تتعجلوا فى مفارقتهن ، فإنه عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله لكم فى الصبر عليه وعدم إنفاذه خيراً كثيراً فى الدنيا والآخرة .
فالآية الكريمة ترشد إلى حكم عظيمة منها أن على العاقل أن ينظر إلى الحياة الزوجية من جميع نواحيها ، لا من ناحية واحدة منها وهى ناحية البغض والحب . . وأن ينظر فى العلاقة التى بينه وبين زوجه بعين العقل والمصلحة المشتركة ، لا بعين الهوى . . وأن يحكم دينه وضميره قبل أن يحكم عاطفته ووجدانه . فربما كرهت النفس ما هو أصلح فى الدين وأحمد وأدنى إلى الخير ، وأحبت ما هو بضد ذلك ، وربما يكون الشئ الذى كرهته اليوم ولكنها لم تسترسل فى كراهيته سيجعل الله فيه خيراً كثيراً فى المستقبل . قال - تعالى - { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } قال القرطبى : روى الإِمام مسلم فى صحيح عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يفرك مؤمن مؤمنة ، إن كره منها خلقاً رضى منها آخر " أى : لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها .
أى لا ينبغى له ذلك ، بل يغفر سيئتها لحسنتها ، ويتغاضى عما يكره لما يجب - والفرك البغض الكلى الذى تنسى مع كل المحاسن - .
وقال مكحول : سمعت ابن عمر رضى الله عنهما - يقول : إن الرجل ليستخير الله - تعالى - فيخار له ، فيسخط على ربه - عز وجل - فلا يلبث أن ينظر فى العاقبة فإذا هو قد خير له .