قوله تعالى : { أَن تَرِثُواْ } : في محلِّ رفعٍ على الفاعلية ب " يَحِلُّ " أي : لا يَحِلُّ لكم إرثُ النساءِ . وقرىء " لا تَحِلُّ " بالتاء من فوق على تأويل أن ترثوا : بالوراثة ، وهي مؤنثةٌ ، وهذا كقراءة : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] بتأنيث " تكن " ونصبِ " فتنتهم " بتأويل " ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتُهم " ، إلا أن في آية الأنعامِ مسوغاً وهو الإِخبار عنه بمؤنث كما سيأتي .
و " النساءَ " مفعول به : إمَّا على حَذْف مضاف أي : أن ترثوا أموال النساء إنْ كان الخطاب للأزواج ؛ لأنه رُوي أن الرجل منهم إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ فيرثَها ، أو تَفْتَدِيَ منه بمالِها إنْ لم تمت . وإما من غير حذفٍ ، على معنى أن يَكُنَّ بمعنى الشيء الموروث إنْ كان الخطابُ للأولياء أو الأقرباء الميت ، فقد نُقل أنه إذا مات أحدُهم وتَرَكَ امرأة وابناً من غيرها كان أحقَّ بها مِنْ نفسها . وقيل : كان الوليُّ إنْ سبق وأَلْقى عليها ثوبَه كان أحق بها ، وإنْ سَبَقَتْ إلى أهلها كانت أحقَّ بنفسِها ، فنُهوا أن يجعلوهُنَّ كالأشياء المواريث ، وعلى ما ذكرْتُ فلا يُحتاج إلى حَذْفِ أحدِ المفعولين : إمَّا الأول أو الثاني على جَعْلِ " أن ترثوا " متعدياً لاثنين كما فعل أبو البقاء قال : " والنساءَ فيه وجهان : أحدُهما : هُنَّ المفعول الأول ، والنساء على هذا هن الموروثاتُ ، وكانت الجاهليةُ تَرِثُ نساء آبائهم وتقول : نحن أحقُّ بنكاحِهِنَّ . والثاني : أنه المفعول الثاني والتقدير : أن ترثوا من النساء المالَ " انتهى . قوله : " هُنَّ المفعول الأول " يعني والثاني محذوف تقديرُه : أَنْ تَرِثوا من آباءكم النساء .
و " كُرْهاً " مصدر في موضع نصب على الحال من النساء أي : أن ترثوهن كارهات أو مكرهات . وقرأ الأخوان " كرهاً " هنا وفي براءة والأحقاف بضم الكاف ، وافقهما عاصم وابن عامر من رواية ابن ذكوان عنه على ما في الأحقاف ، والباقون بالفتح . وقد تقدَّم الكلام في الكُره والكَره : هل هما بمعنى واحد أم لا ؟ في البقرة فأغنى عن إعادته . ولا مفهومَ لقوله " كرهاً " يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك لخروجه مَخْرج الغالبِ .
قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مجزوم ب " لا " الناهية ، عَطَفَ جملةَ نهي على جملةٍ خبرية ، فإنْ لم تُشْترط المناسبةُ بين الجمل كما مذهبُ سيبويه فواضحٌ ، وإن اشترطنا ذلك كما هو رأيُ بعضِهم فلأنَّ الجملةَ قبلَها في معنى النهي ، إذ التقديرُ : لا ترثِوا النساءَ كرهاً فإنه غيرُ حلالٍ لكم . وجعله أبو البقاء على هذا الوجهِ مستأنفاً ، يعني أنه ليس بمعطوفٍ على الفعل قبله .
والثاني : أجازه ابن عطية وأبو البقاء أن يكون منصوباً عطفاً على الفعل قبله . قال ابن عطية : " ويُحتمل أن يكونَ " تَعْضُلوهن " نصباً عطفاً على " تَرِثوا " ، فتكون الواوُ مُشَرِّكةً عاطفة فِعْلاً على فعل " .
وقرأ ابن مسعود : " ولا أَنْ تَعْضُلوهن " فهذه القراءة تُقَوِّي احتمال النصب وأنَّ العَضْل مِمَّا لا يَحِلُّ بالنص . ورَدَّ الشيخ هذا الوجه بأنك إذا عطفت فعلاً منفياً ب " لا " على مثبت وكانا منصوبين فإنَّ الناصب لا يُقَدَّر إلا بعد حرف العطف لا بعد " لا " ، فإذا قلت : " أريدُ أن أتوبَ ولا أدخلَ النار " فإنَّ التقدير : أريد أن أتوبَ وأَنْ لا أدخلَ النار ، لأنَّ الفعلَ يطلبُ الأولَ على سبيل الثبوت والثاني على سبيل النفي ، فالمعنى : أُريد التوبةَ وانتفاء دخولي النارَ ، فو كان الفعلُ المتسلطُ على المتعاطِفَيْنِ منفياً فكذلك ، ولو قَدَّرْتَ هذا التقديرَ في الآية لم يَصِحَّ لو قت : " لا يَحِلُّ أن لا تَعْضُلوهُنَّ " لم يَصِحَّ إلا أن تجعل " لا " زائدة لا نافيةً ، وهو خلاف الظاهر ، وأما أَنْ تقدِّر " أَنْ " بعد " لا " النافية فلا يَصِحُّ ، وإذا قَدَّرْتَ " أن " بعد " لا " كان من عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر ، لا من باب عطف الفعل على الفعل ، فالتبس على ابن عطية العطفان ، وَظنَّ أنه بصلاحية تقدير " أَنْ " بعد " لا " يكونُ من عطفِ الفعل على الفعلِ ، وفَرْقٌ بين قولِك : [ لا ] أريد أن تقومَ وأن لا تخرج " وقولك : " لا أريدُ أن تقومَ ولا أن تخرج " ففي الأول نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه ، وأراد انتقاءَ خروجهِ فقد أرادَ خروجَه ، وفي الثانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامِه ووجودِ خروجِه ، فلا يريدُ لا القيامَ ولا الخروج . وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على منْ لم يتمرَّنْ في علم العربية " انتهى ما رَدَّ به .
وفيه نظرٌ : من حيث إنَّ المثال الذي ذكره في قوله : " أريد أن أتوب ولا أدخل النار " فِإنَّ تقديرَ الناصب فيه قبل " لا " واجب من حيث إنه لو قُدِّر بعدها لفسد التركيب ، وأمَّا في الآية فتقدير " أن " بعد " لا " صحيحٌ ، فإنَّ التقدير يصير : لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن . [ ويؤيد ما قلته وما ذهب إليه ابن عطية قولُ الزمخشري فإنه قال : فإن قلت : ] تعضُلوهن ما وجهُ إعرابه ؟ قلت : النصبُ عطفاً على " أن ترثوا " و " لا " لتأكيدِ النفي أي : لا يَحِلُّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضُلوهن " ، فقد صَرَّح الزمخشري بهذا المعنى وصَرَّح بزيادة " لا " التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر .
وفي الكلام حذفٌ تقديرُه : " ولا تَعْضُلوهن من النكاح " إنْ كان الخطابُ للأولياء ، أو : " ولا تعضُلوهن من الطلاق " إنْ كان الخطاب للأزواجِ . وتقدَّم معنى العَضْل في البقرة .
قوله : { لِتَذْهَبُواْ } اللام متعلقةٌ ب " تَعْضُلوهن " ، والباء في " ببعض " فيها وجهان ، أحدُها : أنها باءُ التعديةِ المرادفةُ لهمزتها اي : لِتَذْهَبُوا [ بعضَ ] ما آتيتموهن . والثاني : أنها للمصاحبةِ ، فيكون الجارُّ في محلّ نصبٍ على الحال ، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : لتذهبوا مصحوبين ببعض ، و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة ، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوفٌ ، وفي تقديره إشكالٌ تقدَّمَ الكلامُ عليه في البقرة عند قوله :
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ الآية : 3 ] فليلتفت إليه .
قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ } في هذا الاستثناء قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ ، فيكونُ " أن يأتينَ " في محلِّ نصب ، والثاني : أنه متصلٌ ، وفيه حينئذ ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره : " ولا تعضُلوهنَّ في وقتٍ من الأوقات إلا وقتَ إتيانهنَّ بفاحشة . الثاني : أنه مستثنى من الأحوال العامة تقديره : لا تَعْضُلوهن في حال من الأحوال إلا في حالِ إتيانهن بفاحشة . الثالث : أنه مستثنى من العلة العامة تقديره : لا تعضُلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة . / وقال أبو البقاء بعد أن حكى فيه وجهَ الانقطاع : " والثاني : هو في موضع الحال تقديرُه : إلاَّ في حالِ إتيانِهِنَّ بفاحشةٍ ، وقيل : هو استثناء متصل ، تقديرُه : ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حالِ إتيان الفاحشة " انتهى . وهذا الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد ، لأنَّ القائلَ بكونِه منصوباً على الحال لا بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماً يجعلُ هذه الحالَ مستثناةً منه .
وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم : " مُبَيَّنة " بفتح الياء اسمَ مفعول في جميع القرآن ، أي : بَيَّنَها مَنْ يَدَّعيها وأوضحها . والباقون بكسرها اسمَ فاعل وفيه وجهان ، أحدهما : أنه من " بيَّن " المتعدي ، فعلى هذا يكون المفعول محذوفاً تقديره مبيِّنةً حالَ مرتكبها . والثاني : أنه من بَيَّن اللازم ، فإنَّ " بَيَّن " يكون متعدياً ولازماً يقال : بانَ الشيء وأبان واستبان وبَيَّن وتبيَّن بمعنى واحد أي : ظَهَر . وقرأ بعضهم : مُبيِنَة بكسرِ الباءِ وسكونِ الياء اسم فاعل من " أبان " ، وفيها الوجهان المتقدمان في المشددة المكسورة ، لأنَّ " أبان " أيضاً يكون متعدياً ولازماً ، وأمَّا " مُبَيِّنات " فقرأهن الأخَوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الياء اسمَ فاعل ، والباقون بفتحها اسمَ مفعول ، وقد تقدَّم وجهُ ذلك .
قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } في الباء وجهان ، أظهرُهما : أنها باءُ الحالِ : إمَّا من الفاعل أي : مصاحبين لهنَّ بالمعروف ، أو من المفعول أي : مصحوباتٍ بالمعروف .
والثاني : أنها باءُ التعدية . قال أبو البقاء : " بالمعروفِ " مفعول أو حالٍ " .
قوله : { فَعَسَى } الفاء جواب الشرط ، وإنما اقترنت بها " عَسَى " لكونِها جامدةً . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : مِنْ أيِّ وجهٍ صَحَّ أن يكون " فعسى " جزاءً للشرط ؟ قلت : من حيث إنَّ المعنى : فإنْ كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة ، فلعل لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبونه " .
وقرىء " ويَجْعَلُ " برفع اللام . قال الزمخشري : " على أنه حال " ، يعني ويكونُ خبراً لمبتدأ محذوف ؛ لئلا يلزمَ دخول الواو على مضارع مثبت . و " عسى " هنا تامةٌ لأنها رَفَعَتْ " أنْ " وما بعدها ، والتقدير : فقد قَرُبَتْ كراهتكم ، فاستغنت عن تقدير خبر ، والضمير في " فيه " يعود على " شيء " أي : في ذلك الشيء المكروهِ وقيل : يعودُ على الكره المدلول عليه بالفعل . وقيل : يعود على الصبر وإن لم يَجْرِ له ذكر .