{ عاليهم ثياب سندس } قرأ أهل المدينة وحمزة : { عاليهم } ساكنة الياء مكسورة الهاء ، فيكون في موضع رفع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس ، وقرأ الآخرون بنصب الياء وضم الهاء على الصفة ، أي فوقهم ، وهو نصب على الظرف { ثياب سندس خضر وإستبرق } قرأ نافع وحفص : { خضر وإستبرق } مرفوعاً عطفاً على الثياب ، وقرأهما حمزة والكسائي مجرورين ، وقرأ ابن كثير وأبو بكر : خضر جر وإستبرق رفع ، وقرأ أبو جعفر وأهل البصرة والشام على ضده فالرفع على نعت الثياب والجر على نعت السندس . { وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } قيل : طاهراً من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا . وقال أبو قلابة وإبراهيم : إنه لا يصير بولاً نجساً ولكنه يصير رشحاً في أبدانهم ، كريح المسك ، وذلك أنهم يؤتون بالطعام ، فيأكلون ، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحاً يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم وتعود شهوتهم . وقال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد .
{ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ } أي : قد جللتهم ثياب السندس والإستبرق الأخضران ، اللذان هما أجل أنواع الحرير ، فالسندس : ما غلظ من الديباج{[1313]} والإستبرق : ما رق منه . { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } أي : حلوا في أيديهم أساور الفضة ، ذكورهم وإناثهم ، وهذا وعد وعدهم الله ، وكان وعده مفعولا ، لأنه لا أصدق منه قيلا ولا حديثا .
وقوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أي : لا كدر فيه بوجه من الوجوه ، مطهرا لما في بطونهم من كل أذى وقذى .
وقوله : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } أي : لباس أهل الجنة فيها الحرير ، ومنه سندس ، وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان ، وهو مما يلي الظاهر ، كما هو المعهود في اللباس{[29614]} { وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ]
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال{[29615]} بعده : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } أي : طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [ فأذهب الله ]{[29616]} ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم .
عليهم ثياب خضر سندس وإستبرق يعلوهم ثياب الحرير الخضر ما رق منها وما غلظ ونصبه على الحال من هم في عليهم أو حسبتهم أو ملكا على تقدير مضاف أي وأهل ملك كبير عاليهم وقرأ نافع عاليهم حمزة بالرفع على أنه خبر ثياب وقرا ابن كثير وأبو بكر خضر بالجر حملا على سندس بالمعنى فإنه اسم جنس وإستبرق بالرفع عطفا على ثياب وقرأهما حفص وحمزة والكسائي بالرفع وقرئ واستبرق بوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علما لهذا النوع من الثياب وحلوا أساور من فضة عطف على ويطوف عليهم ولا يخالفه قوله أساور من ذهب لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض فإن حلي أهل الجنة تختلف باختلاف أعمالهم فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليا وأنوارا تتفاوت الذهب والفضة أو حال من الضمير في عاليهم بإضمار قد وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذلك للمخدومين وسقاهم ربهم شرابا طهورا يريد به نوعا آخر يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند سقيه إلى الله عز وجل ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية والركون إلى ما سوى الحق فيتجرد لمطالعة جماله ملتذا بلقائه باقيا ببقائه وهي منتهى درجات الصديقين ولذلك ختم بها ثواب الأبرار .
قرأ نافع وحمزة وأبان عن عاصم : «عاليهم » على الرفع بالابتداء وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وابن محيصن وابن عباس بخلاف عنه ، وقرأ الباقون وعاصم «عاليَهم » بالنصب على الحال ، والعامل فيه { لقاهم } [ الإنسان : 11 ] أو { جزاهم } [ الإنسان : 12 ] ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة ، وقرأ الأعمش وطلحة : «عاليتهم » ، وكذلك هي في مصحف عبد الله ، وقرأ أيضاً الأعمش «عاليَتهم » بالنصب على الحال ، وقد يجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم ، وقرأت عائشة رضي الله عنها «علتهم » بتاء فعل ماض ، وقرأ مجاهد وقتادة وابن سيرين وأبو حيوة «عليهم » و «السندس » : رقيق الديباج والمرتفع منه ، وقيل «السندس » : الحرير الأخضر ، و «الإستبرق » والدمقس هو الأبيض ، والأرجوان هو الأحمر ، وقرأ حمزة والكسائي «خضر وإستبرقٍ » بالكسر فيهما وهي قراءة الأعمش وطلحة ، ورويت عن الحسن وابن عمر بخلاف عنه على أن «خضر » نعت للسندس ، وجائز جمع صفة الجنس إذا كان اسماً مفرداً كما قالوا : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم الأبيض ، وفي هذا قبح ، والعرب تفرد اسم الجنس وهو جمع أحياناً فيقولون : حصى أبيض ، وفي القرآن { الشجر الأخضر }{[11530]} [ يس : 80 ] و { نخل منقعر }{[11531]} [ القمر : 20 ] فكيف بأن لا يفرد هذا الذي هو صفة لواحد في معنى جمع «وإستبرق » في هذه القراءة عطف على { سندس } ، وقرأ نافع وحفص عن عاصم والحسن وعيسى «خضرٌ وإستبرقٌ » بالرفع فيهما ، «خضرٌ » نعت ل { ثياب } و «إستبرق » عطف على الثياب . وقرأ أبو عمرو وابن عامر «خضرٌ » بالرفع صفة ل { ثياب } ، «وإستبرق » خفضاً ، عطف على { سندس } ، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «خضرٍ » خفضاً «وإستبرقٌ » رفعاً فخفض «خضرٍ » على ما تقدم أولاً ، «واستبرقٌ » على الثياب . والإستبرق غليظ الديباج ، وقرأ ابن محيصن : «واستبرقَ » موصولة الألف مفتوحة القاف كأنه مثال الماضي من برق واستبرق وتجب واستعجب . قال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويؤيد ذلك دخول اللام المعرفة عليه والصواب فيه الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة ، وقرأ أبو حيوة «عليهم ثيابٌ » بالرفع «سندسٌ خضرٌ واستبرقٌ » رفعاً في الثلاثة ، وقوله تعالى : { وحلوا } أي جعل لهم حلي ، و { أساور } جمع أسورة وأسورة جمع سوار وهي من حلي الذراع ، وقوله تعالى : { شراباً طهوراً } قال أبو قلابة والنخعي معناه لا يصير بولاً بل يكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك .
{ عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة }
هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ ، فهذا مرتبط بقوله { ومُلكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] .
وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر { عَاليهم } بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لجملة { رأيْتَ نعيماً ومُلْكاً كبيراً } [ الإنسان : 20 ] ، ف { عاليهم } مبتدأ و { ثياب سندس } فاعلُه سادٌّ مسدّ الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو وصف ، وهي لغة خَبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة : { رأيت نعيماً } [ الإنسان : 20 ] .
وقرأ بقية العشرة { عَاليَهم } بفتح التحتية على أنه حال مفرد ل { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] ، أي تلك حالة أهل الملك الكبير .
وإضافة { ثياب } إلى { سندس } بيانية مثل : خَاتَم ذَهَببِ ، وثَوْببِ خَزَ ، أي منه .
والإستبرق : الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى : { ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق } في سورة الكهف ( 31 ) وهما معرَّبان .
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله ( سندون ) بنون في آخره ، قيل : إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإِسكندر ، وقيل له : إن اسمه ( سندون ) فصيره للغة اليونان سندوس ( لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين ) وصيّره العرب سُندساً . وفي اللسان } : أن السندس يتخذ من المِرْعِزَّى ( كذا ضبطه مصححه ) والمعروف المِرْعِز كما في « التذكرة » و« شفاء الغليل » . وفي « التذكرة » المِرْعز : ما نَعُم وطال من الصوف اه . فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعَر ، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فَرسه :
وداوَيْتُها حتى شَتَتْ حَبَشِيَّةً *** كأنَّ عليها سُندساً وسُدُوساً
أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحَبشي . وفي « اللسان » : السدوس الطيلسان الأخضر . ولقول أبي تمَّام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي :
تَرَدَّى ثيَابَ الموتِ حُمْراً فما أتَى *** لها الليلُ إلاَّ وهْيَ من سُندس خُضْرُ
وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي ، وأصله في الفارسية : استقره .
والمعنى : أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما ، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة .
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك ، قال النابغة يمدح ملوك غسان :
يَصونُون أجْساداً قديما نعيمها *** بخَالصةِ الأردَان خُضْر المَنَاكِب
والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلاّ أخضر اللون .
وقرأ نافع وحفص { خضرٌ } بالرفع على الصفة ل { ثياب } . و { إستبرقٌ بالرفع أيضاً على أنه معطوف على ثياب } بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق : أن الإِستبرق لباسُهم .
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { خُضْرٍ } بالجر نعتاً ل { سندس ، } و { إستبرق } بالرفع عطفاً على { ثياب } .
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب خُضْرٌ } بالرفع و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس } بتقدير : وثياب إستبرق .
وقرأ حمزة والكسائي { خُضرٍ } بالجر نعتاً ل { سندسٍ } باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع . وقرأ و { إستبرقٍ } بالجر عطفاً على { سندس .
والأساور : جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك ، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى .
والمعنى : أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي .
ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة . } وفي سورة الكهف ( 31 ) بأنها { من ذهب } في قوله : يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى ، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبْهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله : { كانت قواريرا قواريرا من فضة } [ الإنسان : 15 ، 16 ] .
هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن الغَوْل وسوءِ القول والهذيان ، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث ، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد .
وأسند سقيه إلى ربهم إظهاراً لكرامتهم ، أي أمر هو بسقيهم كما يقال : أطعَمهم ربُّ الدار وسقاهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} يعني الديباج، وإنما قال: عليهم لأن الذي يلي جسده حريرة بيضاء،
{وحلوا أساور من فضة} وقال في آية أخرى يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا، فهي ثلاث أسورة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فوقهم، يعني فوق هؤلاء الأبرار ثياب سُنْدُسٍ. وكان بعض أهل التأويل يتأوّل قوله: عالِيَهُمْ فوق حِجَالهم المثبتة عليهم ثِيابُ سُنْدُسٍ وليس ذلك بالقول المدفوع، لأن ذلك إذا كان فوق حجالٍ هم فيها، فقد علاهم فهو عاليهم.
وقوله:"ثِيابُ سُنْدُسٍ "يعني: ثياب ديباج رقيق حسن، والسندس: هو ما رقّ من الديباج.
والاستبرق: هو ما غَلُظ من الديباج.
وقوله: "وَحُلّوا أساوِرَ مِنْ فِضّةٍ" يقول: وحلاهم ربهم أساور، وهي جمع أسورة من فضة.
وقوله: "وَسَقاهُمْ رَبّهُمْ شَرَابا طَهُورا" يقول تعالى ذكره: وسقى هؤلاء الأبرار ربّهُم شرابا طهورا، ومن طهره أنه لا يصير بولاً نجسا، ولكنه يصير رشحا من أبدانهم كرشح المسك.
عن مجاهد، قوله: "شَرَابا طَهُورا" قال: ما ذكر الله من الأشربة.
عن أبي قِلابة: إن أهل الجنة إذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دَعَوا بالشراب الطهور فيشربونه، فتطهر بذلك بطونهم ويكون ما أكلوا وشربوا رَشْحا وريحَ مسك، فتضمر لذلك بطونهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق} فجائز أن يكون أراد بالعالي ما علا من المكان الذي هم فيه، فيخبر أن في أعلى أماكنهم ثياب خضر من سندس كما هو في المكان الذي هو أسفل موضع جلوسهم، لأنهم يكونون على الأرائك والحجال فيكون ما تحت الحجال والأرائك من الأماكن {ونمارق مصفوفة} {وزرابيّ مبثوثة} [الغاشية: 15و16] ويكون عاليها كذلك. فإن كان على هذا فرق بين أن يكون فرش ذلك المكان من حرير وديباج غليظ إن أريد بالإستبرق الديباج الغليظ، وبين أن يكون من ديباج رقيق، إذ كل ذلك مما يرغب في مثله، والله أعلم.
وقيل: {عاليهم} أي أعلى ثيابهم {ثياب سندس خضر وإستبرق}.
وقال بعضهم: عالي أنفسهم {ثياب سندس خضر} ومنهم من صرف السندس والإستبرق إلى ما بسط، لأن الديباج الغليظ مما لا ترغب الأنفس إلى لبس مثله، فجمع بين ما يلبس وبين ما يفرش، وبين الفعل في أحدهما، ولم يذكر في الآخر. ومنهم من قال: {عاليهم} هم الولدان يطوفون من أعاليهم، والله أعلم.
وقوله تعالى: {وحلوا أساور من فضة} فبشرهم بالأساور من الفضة، لأن الفضة مستحسنة بنفسها لبياضها، والذهب استحسانه لندرته وعزته، ليس لنفسه، لأنه أصفر، والأعين لا تستحسن هذا اللون، فجرت البشارة بالفضة لا بالذهب. وقال بعضهم: يحلّى الرجال بأسورة من الفضة على ما أبيح لهم التحلي بخاتم في الدنيا، وتحلى النساء بأساور الذهب على ما أبيح لهن بها في الدنيا.
وقوله تعالى: {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} قيل: هو الخمر، يطهر من الآفات ومن كل مكروه، ويطهر قلوبهم من الغل، فيعمل ذلك الشراب في تطهير الظاهر والباطن.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الشراب الطهورُ هو الطاهر في نفسِه المُطَهِّرُ لغيره. فالشراب يكون طهوراً في الجنة -وإنْ لم يحصل به التطهيرُ لأن الجنة لا يُحتاجُ فيها إلى التطهير. ولكنه- سبحانه -لمَّا ذَكَرَ الشرابَ- وهو اليومَ في الشاهد نجَسٌ -أخبر أنَّ ذلك الشرابَ غداً طاهرٌ، ومع ذلك مُطَهِّر؛ يُطَهِّرُهم عن محبة الأغيار، فمن يَحْتسِ من ذلك الشرابِ شيئاً طَهَّرَه عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات. ويقال: يُطَهِّرُ صدورهم من الغِلِّ والغِشِّ، ولا يُبْقِي لبعضهم مع بعض خصيمة ولا عداوة ولا دَعْوَى ولا شيء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الدار وساكنيها من مخدوم وخدم، ذكر لباسهم بانياً حالاً من الفاعل والمفعول: {عليهم} أي حال كون الخادم والمخدوم يعلو أجسامهم على سبيل الدوام، {ثياب سندس} وهو ما رق من الحرير {خضر} {وإستبرق} وهو ما غلظ من الديباج يعمل بالذهب، أو هو ثياب حرير صفاق نحو الديباج -قاله في القاموس. ولما كان المقصود لأرباب اللباس الفاخر الحلية، أخبر عن تحليتهم، وبني الفعل للمفعول دلالة على تيسر ذلك لهم وسهولته عليهم فقال: {وحلّوا} أي وجدت تحلية المخدومين والخدم {أساور من فضة} وإن كانت تتفاوت بتفاوت الرتب، وتقدم سر تخصيص هذه السورة بالفضة والأساورة بجمع ما فيها من لذة الزينة لذة اتساع الملك فإنها كناية عنه فإنه- كما قال الملوي -كان في الزمن القديم- إذا ملك ملك أقاليم عظيمة كثيرة لبس سواراً وسمي الملك المسور لاتساع مملكته وعظمتها وكثرة أقاليمها، وإن لم تجمع أقاليم لم يسور فما ظنك بمن أعطى من ذلك جمع الكثرة، وهي بالغة من الأعضاء ما يبلغه التحجيل في الوضوء كما قال صلى الله عليه وسلم: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " فلذا كان أبو هريرة رضي الله عنه يرفع الماء إلى المنكبين وإلى الساقين. ولما كان ربما ظن بما تقدم من ذلك الممزوج شيء من نقص لأجله يمزج كما هو في الدنيا، وكان قد قال أولاً {يشربون} بالبناء للفاعل، وثانياً (يسقون) بالبناء للمفعول، قال بانياً للفاعل بياناً لفضل ما يسقونه في نفسه وفي كونه من عند الإله الأعظم المتصف بغاية الإحسان على صفة من العظمة تليق بإحسانه سبحانه بما أفاده إسناد الفعل إليه: {وسقاهم} وعبر بصفة الإحسان تأكيداً لذلك فقال: {ربهم} أي الموجد لهم المحسن إليهم المدبر لمصالحهم {شراباً طهوراً *} أي ليس هو كشراب الدنيا سواء كان من الخمر أو من الماء أو من غيرهما، بل هو بالغ الطهارة والوصف بالشرابية من العذوبة واللذة واللطافة، وهو مع ذلك آلة للتطهير البالغ للغير فلا يبقى في بواطنهم غش ولا وسواس، ولا يريدون إلا ما يرضي مليكهم مما أسس على غاية الحكمة وفاق كامل وسجايا مطهرة وأخلاق مصطفاة لا عوج فيها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة}
هذه الأشياء من شعار الملوك في عرف الناس زَمانَئِذ، فهذا مرتبط بقوله {ومُلكاً كبيراً} [الإنسان: 20].
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله (سندون)، والظاهر أنه لا يكون إلاّ أخضر اللون.
وأما الإِستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية: استقره.
والمعنى: أن فوقهم ثياباً من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعاً بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروَة.
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك.
والأساور: جمع سِوار وهو حَلي شكله اسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلاّ الملوك، وقد ورد في الحديث ذكر سواري كسْرى.
والمعنى: أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتحلّيْنَ بأصناف الحلي.
ووصفت الأساور هنا بأنها من فضة.} وفي سورة الكهف (31) بأنها {من ذهب} في قوله:"يُحلَّون فيها من أساور من ذهب"، أي مرة يحلَّون هذه ومرة الأخرى، أو يحلونهما جميعاً بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبْهج منظراً كما ذكرناه في تفسير قوله: {كانت قواريرا قواريرا من فضة} [الإنسان: 15، 16].
{وسقاهم ربهم شرابا طهورا} هذا احتراس مما يوهمه شُربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا من الغَوْل وسوءِ القول والهذيان، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طَهوراً بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث، أي منزهاً عما في غيره من الخباثة والفساد.