فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

{ عاليهم ثياب سندس } قرأ نافع وحمزة وابن محيصن عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء وهي سبعية على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر أو على أن عاليهم مبتدأ ثياب مرتفع بالفاعلية وأن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش ، وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء وخبره ثياب واسم الفاعل مراد به الجمع .

وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء لتحرك ما قبلها على أنه ظرف كأنه قيل فوقهم ثياب قال الفراء إن عاليهم بمعنى فوقهم ، وكذا قال ابن عطية .

قال أبو حيان عال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب ، وقد تقدمه إلى هذا الزجاج ، وقال هذا مما لا نعرفه في الظروف ، ولو كان ظرفا لم يجز إسكان الياء ولكنه نصب على الحال من شيئين أحدهما الهاء والميم في قوله يطوف عليهم ، أي على الأبرار ثياب سندس ، أي يطوف عليهم في هذه الحال .

والثاني أن يكون حالا من الولدان أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا في حال علو الثياب أبدانهم .

قلت : قد وردت ألفاظ مكن صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها فكذلك هذا فلا وجه للإنكار ، وقال أبو علي الفارسي : العامل في الحال إما لقاهم نضرة وإما جزاهم بما صبروا قال ويجوز أن يكون ظرفا .

وقرئ { عليهم } وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة ، واختار أبو عبيد الأولى لقراءة ابن مسعود { عاليتهم } .

وقرأ الجمهور ثياب سندس بالإضافة على معنى " من " وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بفكها ورفع سندس ، و { خضر واستبرق } على أن السندس نعت للثياب لأن السندس نوع منها وعلى أن خضر نعت لسندس لأنه يكون أخضر وغير أخضر ، وعلى أن استبرق معطوف على سندس أي وثياب استبرق .

والجمهور من القراء اختلفوا في خضر واستبرق مع اتفاقهم على جر سندس بإضافة ثياب إليه ، فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجر خضر نعتا لسندس ، ورفع استبرق عطفا على ثياب أي عليهم ثياب سندس ، وعليهم استبرق .

وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع خضر نعتا لثياب وجر استبرق نعتا لسندس ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد لأن الخضر أحسن ما كانت نعتا للثياب فهي مرفوعة ولاستبرق من جنس السندس .

وقرأ نافع وحفص برفع خضر واستبرق لأن خضرا نعت للثياب واستبرق عطف على الثياب .

وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجر خضر واستبرق على أن خضرا نعت للسندس واستبرق معطوف على سندس .

واستشكل على هذه القراءة وكذا قراءة جر الأول ورفع الثاني بوقوع خضر الذي هو جمع نعتا لسندس الذي هو مفرد .

والجواب أن السندس اسم جنس واحده سندسة ، ووصف اسم الجنس بالجمع شائع فصيح على حد { وينشئ السحاب الثقال } وقرأوا كلهم بصرف استبرق إلا ابن محيصن فإنه قرأ بعدم صرفه قال لأنه أعجمي ، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلا أن يقول أنه علم لهذا الجنس من الثياب ، والسندس ترقَّ من الديباج ، والاستبراق ما غلظ منه ، وقد تقدم تفسيرهما في سورة الكهف .

{ وحلوا أساور من فضة } عطف على يطوف عليهم ماض لفظا مستقبل معنى وأبرزه بالماضي لتحققه .

ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضة ، وفي سورة فاطر { يحلون فيها من أساور من ذهب } وفي سورة الحج { يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا } .

ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن تجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ لتجتمع لهم محاسن الجنة أو بأن المراد لهم يلبسون سوارات الذهب تارة ، وسوارات الفضة تارة ، وسوارات اللؤلؤ تارة ، وأنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك أو حلي الرجال الفضة وحلي النساء الذهب ، وقيل أسورة الفضة إنما تكون للولدان ، وأسورة الذهب للنسوان ، وقيل هذا بحسب الأوقات والأعمال .

{ وسقاهم ربهم شرابا طهورا } هذا نوع آخر من الشراب الذي يمن الله عليهم به يفوق على النوعين المتقدمين ، ولذلك أسند سقياه إلى الله ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية ، والركون إلى ما سوى الحق فيتجرد لمطالعة جماله ، متلذذا بلقائه باقيا ببقائه ، وهو منتهى درجات الصديقين .

قال الفراء يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفا بالنجاسة أي لم تمسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل ، وقيل لا يستحيل بولا ، وطهور صيغة مبالغة في الطهارة والنظافة .

والمعنى أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا ، فشتان ما بين الشرابين والآنيتين والمنزلتين ، قال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غش وغل وحسد .

قال أبو قلابة وإبراهيم والنخعي يؤتون بالطعام فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك ثم يقال لهم بعد دخولهم في الجنة ومشاهدتهم نعيمها .