البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : { عاليهم } بفتح الياء ؛ وابن عباس : بخلاف عنه ؛ والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم .

وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن عليّ : بالياء مضمومة ؛ وعن الأعمش وأبان أيضاً عن عاصم : بفتح الياء .

وقرأ : عليهم حرف جر ، ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضاً ؛ وقرأت عائشة رضي الله عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلاً ماضياً ، فثياب فاعل .

ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ؛ ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ؛ ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في { ويطوف عليهم } ، فذوا لحال الطوف عليهم والعامل يطوف .

وقال الزمخشري : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في { يطوف عليهم } ، أو في { حسبتهم } ، أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب .

ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . انتهى .

إما أن يكون حالاً من الضمير في { حسبتهم } ، فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على { ولدان } ، ولذلك قدر عاليهم بقوله : عالياً لهم ، أي للولدان ، وهذا لا يصح لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله : { وحلوا وسقاهم } ، وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز .

وأما جعله حالاً من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، وثياب مرفوع على الفاعلية بالحال .

وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم . انتهى .

وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب .

وقرأ الجمهور : ثياب بغير تنوين على الإضافة إلى سندس .

وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، تريد من حرير ؛ وبرفع خضر بالصفة أيضاً لأن الخضرة لونها ؛ ورفع استبرق بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف تقديره : وثياب استبرق ، أي من استبرق .

وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : خضر برفعهما .

وقرأ العربيان ونافع في رواية : خضر بالرفع صفة لثياب ، وإستبرق جر عطفاً على سندس .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع إستبرق عطفاً على ثياب .

وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما ؛ وحمزة والكسائي : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : { وينشىء السحاب الثقال } وقال : { والنخل باسقات } فجعل الحال جمعاً ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح .

وقرأ ابن محيصن : { وإستبرق } ، وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف .

وقال الزمخشري هنا : وقرىء واستبرق نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الاستبرق إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب .

وقرىء : واستبرق ، بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله استبره . انتهى .

ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله : بعد وقرىء واستبرق بوصل الألف والفتح ، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف ؛ والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف .

وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميراً ، ويومئذ ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة . انتهى .

ونقول : إن ابن محيصن قارىء جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق .

وتقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب .

ولما كان قوله : { خضر } يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقاً وحسناً يزيل غبشته .

فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : { خضر } .

وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة { أساور من فضة } ، وفي موضع آخر { من ذهب } أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا .

قال الزمخشري وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة . انتهى .

فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلاً منه ، وإمّا أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور .

فإن كان الأول ، فلا يجوز لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول افعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن بزيد ، تريد : ما أحسن زيداً ، وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف .

والمنقول عن سيبويه أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف .

{ وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } ، طهور صفة مبالغة في الطهارة ، وهي من فعل لازم ؛ وطهارتها بكونها لم يؤمر باجتنابها ، وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس ؛ أو لكونها لم تدس برجل دنسة ، ولم تمس بيد وضرة ، ولم توضع في إناء لم يعن بتنظيفه .

ذكره بأبسط من هذا الزمخشري ثم قال : أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة ، لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . انتهى .

وهذا الآخر قاله أبو قلابة والنخعيّ وإبراهيم التيمي ، قالوا : لا تنقلب إلى البول ، بل تكون رشحاً من الأبدان أطيب من المسك .