فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{عَٰلِيَهُمۡ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضۡرٞ وَإِسۡتَبۡرَقٞۖ وَحُلُّوٓاْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٖ وَسَقَىٰهُمۡ رَبُّهُمۡ شَرَابٗا طَهُورًا} (21)

{ عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ } قرأ نافع وحمزة وابن محيصن ( عَالِيهِم ) بسكون الياء وكسر الهاء على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، أو على أن عاليهم مبتدأ ، وثياب مرتفع بالفاعلية وإن لم يعتمد الوصف كما هو مذهب الأخفش . وقال الفراء : هو مرفوع بالابتداء ، وخبره : ثياب سندس ، واسم الفاعل مراد به الجمع . وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الهاء على أنه ظرف في محلّ رفع على أنه خبر مقدّم ، وثياب مبتدأ مؤخر ، كأنه قيل فوقهم ثياب . قال الفرّاء : إن عاليهم بمعنى فوقهم ، وكذا قال ابن عطية . قال أبو حيان : عال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولاً من كلام العرب ، وقد تقدّمه إلى هذا الزجاج وقال : هذا مما لا نعرفه في الظروف ولو كان ظرفاً لم يجز إسكان الياء ، ولكنه نصب على الحال من شيئين : أحدهما الهاء والميم في قوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أي على الأبرار { ولدان } عالياً الأبرار { ثِيَابُ سُندُسٍ } أي يطوف عليهم في هذه الحال . والثاني أن يكون حالاً من الولدان : أي إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً في حال علوّ الثياب أبدانهم . وقال أبو عليّ الفارسي : العامل في الحال إما لقاهم نضرة وسروراً ، وإما جزاهم بما صبروا . قال : ويجوز أن يكون ظرفاً . وقرأ ابن سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة : ( عليهم ) ، وهي قراءة واضحة المعنى ظاهرة الدلالة . واختار أبو عبيد القراءة الأولى لقراءة ابن مسعود : ( عاليتهم ) . وقرأ الجمهور بإضافة ثياب إلى سندس . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بتنوين ثياب وقطعها عن الإضافة ورفع سندس ، و{ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } على أن السندس نعت للثياب ، لأن السندس نوع من الثياب ، وعلى أن { خضر } نعت لسندس ، لأنه يكون أخضر وغير أخضر ، وعلى أن إستبرق معطوف على سندس : أي وثياب إستبرق ، والجمهور من القرّاء اختلفوا في { خضر وإستبرق } مع اتفاقهم على جرّ سندس بإضافة ثياب إليه ؛ فقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم وابن محيصن بجرّ { خُضْرٍ } نعتاً لسندس ، ورفع { إِسْتَبْرَقٌ } عطفاً على ثياب : أي عليهم ثياب سندس وعليهم إستبرق . وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع { خُضْرٌ } نعتاً لثياب ، وجرّ { إِسْتَبْرَقٍ } نعت لسندس . واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، لأن الخضر أحسن ما كانت نعتاً للثياب فهي مرفوعة ، والإستبرق من جنس السندس . وقرأ نافع وحفص برفع { خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } لأن { خضر } نعت للثياب ، و«إستبرق » عطف على الثياب . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بجرّ ( خُضْرٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) على أن { خضر } نعت للسندس ، وإستبرق معطوف على سندس . وقرءوا كلهم بصرف إستبرق إلاّ ابن محيصن فإنه لم يصرفه ، قال : لأنه أعجمي ، ولا وجه لهذا لأنه نكرة إلاّ أن يقول إنه علم لهذا الجنس من الثياب . والسندس : ما رقّ من الديباج . والإستبرق : ما غلظ منه ، وقد تقدّم تفسيرهما في سورة الكهف . { وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } عطف على { يطوف عليهم } . ذكر سبحانه هنا أنهم يحلون بأساور الفضّة وفي سورة فاطر { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } [ فاطر : 33 ] وفي سورة الحج { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] ولا تعارض بين هذه الآيات لإمكان الجمع بأن يجعل لهم سوارات من ذهب وفضة ولؤلؤ ، أو بأن المراد أنهم يلبسون سوارات الذهب تارة ، وسوارات الفضة تارة ، وسوارات اللؤلؤ تارة ، أو أنه يلبس كل أحد منه ما تميل إليه نفسه من ذلك ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من ضمير عاليهم بتقدير قد { وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } هذا نوع آخر من الشراب الذي يمنّ الله عليهم به . قال الفرّاء : يقول هو طهور ليس بنجس كما كان في الدنيا موصوفاً بالنجاسة . والمعنى : أن ذلك الشراب طاهر ليس كخمر الدنيا . قال مقاتل : هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غشّ وغلّ وحسد . قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي : يؤتون بالطعام ، فإذا كان آخره أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك .