قوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } ، محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { ترى أعينهم تفيض } ، تسيل .
قوله تعالى : { من الدمع مما عرفوا من الحق } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : يريد النجاشي وأصحابه ، قرأ عليهم جعفر بالحبشة { كهيعص } ، فمازالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة .
قوله تعالى : { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، دليله قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] .
ومنها : أنهم { إذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ } محمد صلى الله عليه وسلم ، أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له ، وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا من الحق الذي تيقنوه ، فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا : { رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون لله بالتوحيد ، ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به ، ويشهدون على الأمم السابقة بالتصديق والتكذيب .
وهم عدول ، شهادتهم مقبولة ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحد ، ولا يدع الأمر مجهلا ومعمما على كل من قالوا : إنا نصارى . . إنما هو يمضي فيصور موقف هذه الفئة التي يعنيها :
( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون ربنا آمنا ، فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) . .
فهذا مشهد حي يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس ، الذين هم أقرب مودة للذين آمنوا . . إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزت مشاعرهم ، ولانت قلوبهم ، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيرا عن التأثر العميق العنيف بالحق الذي سمعوه . والذي لا يجدون له في أول الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير - وهي حالة معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول ، فيفيض الدمع ، ليؤدي ما لا يؤديه القول ؛ وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق العنيف .
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع ؛ ولا يقفون موقفا سلبيا من الحق الذي تأثروا به هذا التأثر عند سماع القرآن ؛ والشعور بالحق الذي يحمله والإحساس بما له من سلطان . . إنهم لا يقفون موقف المتأثر الذي تفيض عيناه بالدمع ثم ينتهي أمره مع هذا الحق ! إنما هم يتقدمون ليتخذوا من هذا الحق موقفا إيجابيا صريحا . . موقف القبول لهذا الحق ، والإيمان به ، والإذعان لسلطانه ، وإعلان هذا الإيمان وهذا الإذغان في لهجة قوية عميقة صريحة :
( يقولون : ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ) .
إنهم اولا يعلنون لربهم إيمانهم بهذا الحق الذي عرفوه . ثم يدعونه - سبحانه - أن يضمهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق ؛ وأن يسلكهم في سلك الامة القائمة عليه في الأرض . . الأمه المسلمه ، التي تشهد لهذا الدين بأنه الحق ، وتؤدي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر . . فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمون إلى هذه الأمة المسلمة ؛ ويشهدون ربهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعة هذة الأمة ؛ ويدعونه - سبحانه - أن يكتبهم في سجلها . .
ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أي : مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به .
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن عمر{[10213]} بن علي بن مُقَدَّم ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير [ رضي الله عنهما ]{[10214]} قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }{[10215]}
وقال الطبراني : حدثنا أبو شُبَيْل عُبَيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل ، عن عبد الجبار بن نافع الضبي ، عن قتادة وجعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } قال : إنهم كانوا كرابين - يعني : فلاحين - قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم{[10216]} إلى دينكم " . فقالوا : لن ننتقل عن ديننا . فأنزل الله ذلك من قولهم . {[10217]}
وروى ابن أبي حاتم : وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق سِماك عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم{[10218]} الشاهدون ، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ ، وللرسل أنهم قد بلغوا . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . {[10219]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى الذين وصفت لك يا محمد صفتهم ، أنك تجدهم أقرب الناس مودّة للذين آمنوا ، ما أنزل إليك من الكتاب يتلى ، " تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " . وفيض العين من الدمع : امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه عن شدّة امتلائه ومنه قول الأعشى :
فَفاضَتْ دُمُوعِي فَطَلّ الشّؤو ***نِ إمّا وَكِيفا وإمّا انْحِدَارَا
وقوله : مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يقول : فيض دموعهم لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقّ .
كما : حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ ، قال : بعث النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فبكوا . وكان منهم سبعة رهبان وخمسة قسيسون ، أو خمسة رهبان وسبعة قسيسون ، فأنزل الله فيهم : وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمر بن عليّ بن مقدّم ، قال : سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : نزلت في النجاشيّ وأصحابه : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة بن سليم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله : تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرفُوَا مِنَ الحَقّ قال : ذلك في النجاشيّ .
حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كانوا يرون أن هذه الاية أنزلت في النجاشيّ : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : قال ابن إسحاق ، سألت الزهري عن الآيات : " ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ . . . الاية " . وقوله " وَإذَا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاما " قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشيّ وأصحابه .
وأما قوله : يَقولُونَ فإنه لو كان بلفظ اسم كان نصبا على الحال ، لأنّ معنى الكلام : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحقّ ، قائلين ربنا آمنا . ويعني بقوله تعالى ذكره : " يَقُولُونَ رَبَنّا آمَنا " أنهم يقولون : يا ربنا صدّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ، وأقررنا به أنه من عندك وأنه الحقّ لا شكّ فيه .
وأما قوله : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " فإنه رُوي عن ابن عباس وغيره في تأويله ، ما :
حدثنا به هناد قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وابن نمير جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " اكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ : قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " يعنون بالشاهدين : محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " قال محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، أنهم شهدوا أنه قد بلّغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلّغت .
حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، قال : ثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز ، غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد بلّغُوا .
فكأنّ متأوّل هذا التأويل قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره : " وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا " ، فذهب ابن عباس إلى أن الشاهدين هم الشهداء في قوله : " لِتَكُونوا شُهَدَاءَ على النّاسِ " وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة أنهم قد بلّغوا أممهم رسالاتك .
ولو قال قائل : معنى ذلك : فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتاب حقّ ، كان صوابا ، لأن ذلك خاتمة قوله : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم ، لما سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده شهادتهم بذلك ، ويُلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم . ومعنى الكتاب في هذا الموضع : الجَعْل ، يقول : فاجْعَلْنا مَعَ الشّاهِدِينَ ، وأثبتنا معهم في عدادهم .
الخطاب في قوله { تَرى أعينهم } للنبيء صلى الله عليه وسلم إن كان قد رأى منهم مَن هذه صفته ، أو هو خطاب لكلّ من يصحّ أن يَرى . فهو خطاب لغير معيّن ليعمّ كلّ من يخاطب .
وقوله : { تفيض من الدمع } معناه يفيضُ منها الدمع لأنّ حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حَاوِيه فيسيل خارجاً عنه . يقال : فاض الماء ، إذا تجاوز ظرفه . وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين . وقد يسند الفَيْض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي ، فيقال : فاض الوادي ، أي فاض ماؤُه ، كما يقال : جَرَى الوادي ، أي جرى ماؤه . وفي الحديث : « ورَجُل ذكر الله خَالياً فَفَاضَتْ عيناه » وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسنادِ المجازي فيقولون : فاضت عينه دمعاً ، بتحويل الإسناد المسمّى تمييزَ النسبة ، أي قرينة النسبة المجازية . فأمّا ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون ( مِنْ ) الداخلة على الدمع هي البَيانية التي يجرّ بها اسم التمييز ، لأنّ ذلك عندهم ممتنع في تمييز النسبة ، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة ، قُلِب قولُ الناس المتعارف : فاضَ الدمع من عينِ فلان ، فقيل : { أعينَهم تفيض من الدمع } ، فحرف ( مِن ) حرف ابتداء . وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت ( مِن ) بيانية جارّة لاسم التمييز . وتعريف الدمع تعريف الجنس ، مثل : طبتَ النَّفْسَ .
و ( مِنْ ) في قوله { مِمَّا عرفوا } تعليلية ، أي سببُ فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنّه الحقّ الموعود به . ف { مِن } قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله :
{ تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزَنا } [ التوبة : 92 ] ، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بَشّر به ، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين . و ( مِن ) في قوله { من الحقّ } بيانية . أي ممّا عرفوا ، وهو الحقّ الخاصّ . أو تبعيضية ، أي ممّا عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحقّ الذي جاء به عيسى والنبيئون من قبله .
وجملة { يقولون } حال ، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا . وهذا القول يجوز أن يكون علناً ، ويجوز أن يكون في خويّصتهم .
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدّقوهم . وهذه فضيلة عظيمة لم تحصُل إلاّ في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرّة . وتلك الفضيلة أنّها المبادرة بتصديق الرسُل عند بعثتهم حين يكذبِهم الناس بادىءَ الأمر . كما قال ورقة : يا ليتني أكون جَذعاً إذْ يُخرجك قومك . أي تكذيباً منهم . أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده ، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى . ففي إنجيل متّى عدد24 من قول عيسى « ويقومُ أنبياء كذَبَة كثيرون ويُضِلّون كثيرين ولكن الذي يصبِر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادةً لجميع الأمم » . وفي إنجيل يُوحَنَّا عدد15 من قول عيسى « ومتى جاء المُعَزّى روحُ الحقّ الذي من عند الأبِ ينبثقُ فهو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من الابتداء » . وإنّ لِكلمة { الحقّ } وكلمة { الشاهِدين } في هذه الآية موقعاً لا تغني فيه غيرهما لأنّهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام .