قوله تعالى : { أفمن وعدناه وعداً حسناً } أي الجنة ، { فهو لاقيه } مصيبه ومدركه وصائر إليه ، { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } ويزول عن قريب { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } النار ، قال قتادة : يعني المؤمن والكافر ، قال مجاهد : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقال محمد بن كعب : نزلت في حمزة وعلي ، وأبي جهل . وقال السدي : نزلت في عمار والوليد بن المغيرة .
ولهذا نبه العقول على الموازنة بين عاقبة مؤثر الدنيا ومؤثر الآخرة ، فقال : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ }
أي : هل يستوي مؤمن ساع للآخرة سعيها ، قد عمل على وعد ربه له ، بالثواب الحسن ، الذي هو الجنة ، وما فيها من النعيم العظيم ، فهو لاقيه من غير شك ولا ارتياب ، لأنه وعد من كريم صادق الوعد ، لا يخلف الميعاد ، لعبد قام بمرضاته وجانب سخطه ، { كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فهو يأخذ فيها ويعطي ، ويأكل ويشرب ، ويتمتع كما تتمتع البهائم ، قد اشتغل بدنياه عن آخرته ، ولم يرفع بهدى الله رأسا ، ولم ينقد للمرسلين ، فهو لا يزال كذلك ، لا يتزود من دنياه إلا الخسار والهلاك .
{ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } للحساب ، وقد علم أنه لم يقدم خيرا لنفسه ، وإنما قدم جميع ما يضره ، وانتقل إلى دار الجزاء بالأعمال ، فما ظنكم إلى ما يصير إليه ؟ وما تحسبون ما يصنع به ؟ فليختر العاقل لنفسه ، ما هو أولى بالاختيار ، وأحق الأمرين بالإيثار .
وفي نهاية هذه الجولة يعرض عليهم صفحتي الدنيا والآخرة ، ولمن شاء أن يختار :
( أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ? ) . .
فهذه صفحة من وعده الله وعدا حسنا فوجده في الآخرة حقا وهو لا بد لاقيه . وهذه صفحة من نال متاع الحياة الدنيا القصير الزهيد ، ثم ها هو ذا في الآخرة محضر إحضارا للحساب . والتعبير يوحي بالإكراه ( من المحضرين )الذين يجاء بهم مكرهين خائفين يودون أن لم يكونوا محضرين ، لما ينتظرهم من وراء الحساب على ذلك المتاع القصير الزهيد !
وتلك نهاية المطاف في الرد على مقالتهم : ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا )فحتى لو كان ذلك كذلك فهو خير من أن يكونوا في الآخرة من المحضرين ! فكيف واتباع هدى الله معه الأمن في الدنيا والتمكين ، ومعه العطاء في الآخرة والأمان ? ألا إنه لا يترك هدى الله إذن إلا الغافلون الذين لا يدركون حقيقة القوى في هذا الكون . ولا يعرفون أين تكون المخافة وأين يكون الأمن . وإلا الخاسرون الذين لا يحسنون الاختيار لأنفسهم ولا يتقون البوار .
وقوله : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } : يقول : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح أعماله من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة ، كمَنْ هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده ، فهو ممتع في الحياة الدنيا أيامًا قلائل ، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } قال مجاهد ، وقتادة : من المعذبين .
ثم قد قيل : إنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل . وقيل : في حمزة وعلي وأبي جهل ، وكلاهما عن مجاهد . والظاهر أنها عامة ، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه ، وهو في الدرجات وذاك في الدركات : { وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [ الصافات : 57 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 158 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مّتّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : أفمن وعدناه من خلقنا على طاعته إيانا الجنة ، فآمن بما وعدناه وصدّق وأطاعنا ، فاستحقّ بطاعته إيانا أن ننجز له ما وعدناه ، فهو لاق ما وعد ، وصائر إليه كمن متّعناه في الحياة الدنيا متاعها ، فتمتع به ، ونسي العمل بما وعدنا أهل الطاعة ، وترك طلبه ، وآثر لذّة عاجلة على آجله ، ثم هو يوم القيامة إذا ورد على الله من المحضرين ، يعني من المُشْهَدِين عذابَ الله ، وأليمَ عقابه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِيهِ قال : هو المؤمن سمع كتاب الله فصدّق به وآمن بما وعد الله فيه كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدّنْيا هو هذا الكافر ، ليس والله كالمؤمن ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ : أي في عذاب الله .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال ابن عمرو في حديثه : قوله مِنَ المُحْضَرِينَ قال : أحضروها . وقال الحارث في حديثه ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ المُحْضرِين أهلَ النار ، أُحْضِروها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ قال : أهل النار ، أُحْضِروها .
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الاَية ، فقال بعضهم : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي جهل بن هشام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب عن مجاهد أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِيهِ ، كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدّنْيا ، ثُمّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ قال : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي جهل بن هشام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِيهِ قال : النبيّ صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون : نزلت في حمزة وعليّ رضي الله عنهما ، وأبي جهل لعنه الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا بَدَل بن المُحَبّر التغلَبيّ ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد أفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْدا حَسَنا فَهُوَ لاقِيهِ كمَنْ مَتّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدّنْيا ، ثمّ هُوَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ قال : نزلت في حمزة وعليّ بن أبي طالب ، وأبي جهل .
قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة عن أبان بن تغلب ، عن مجاهد ، قال : نزلت في حمزة وأبي جهل .
ثم زادهم توبيخاً بقوله { أفمن وعدناه وعداً حسناً } الآية ، وقوله { أفمن وعدناه } يعم معناها جميع العالم لكن اختلف الناس فيمن نزلت ، فقال مجاهد : الذي وعد الوعد الحسن هو محمد عليه السلام وضده أبو جهل ، وقال مجاهد أيضاً : نزلت في حمزة وأبي جهل ، وقيل في علي وأبي جهل ، وقال قتادة : نزلت عامة في المؤمن والكافر كما معناها عام .
قال القاضي أبو محمد : ونزولها عام بين الاتساق بما قبله من توبيخ قريش ، و { من المحضرين } ، معناه في عذاب الله قاله مجاهد وقتادة ، ولفظة { محضرين } مشيرة إلى سوق بجبر ، وقرأ طلحة «أمن وعدناه » بغير فاء ، وقرأ مسروق «أفمن وعدناه نعمة منا فهو لاقيها » .
أحسب أن موقع فاء التفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله { وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا } [ القصص : 60 ] ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف في حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [ المطففين : 31 ] أي منعمين ، وقال { وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً } [ المزمل : 11 ] فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين } [ هود : 116 ] وقال { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } [ الأنبياء : 13 ] فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل ، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين ، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بياناً بأن ما أوتوه زائل زوالاً معوضاً بضد المتاع والزينة وذلك قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } .
فما صدق { من } الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون ، وما صدق { من } الثانية جمع هم الكافرون . والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد .
وجملة { فهو لاقيه } معترضة لبيان أنه وعد محقق ، والفاء للتسبب .
وجملة { ثم هو } الخ عطف على جملة { متعناه متاع الحياة الدنيا } فهي من تمام صلة الموصول . و { ثم } للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها ، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم .
ومعنى { من المحضرين } أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في { أفلا تعقلون } [ القصص : 60 ] . والمقابلة في قوله { أفمن وعدناه وعداً حسناً } المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن ، فحذف متعلق { المحضرين } اختصاراً كما حذف في قوله { ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين } [ الصافات : 57 ] وقوله { فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين } [ الصافات : 127 - 128 ] .