قوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ، ولم يهاجروا ، منهم : قيس بن الفاكه بن المغيرة ، وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما ، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم ، فقتلوا مع الكفار ، فقال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة } ، أراد به ملك الموت وأعوانه ، أو أراد ملك الموت وحده ، كما قال تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } [ السجدة :11 ] ، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع { ظالمي أنفسهم } بالشرك ، وهو نصب على الحال ، أي : في حال ظلمهم .
قيل : أي بالمقام في دار الشرك ، لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة ، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ) وهؤلاء قتلوا يوم بدر ، وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ، وقالوا لهم : { فيم كنتم } ؟ فذلك قوله تعالى : { قالوا فيم كنتم } أي : في ماذا كنتم ؟ أو في أي الفريقين ؟ أكنتم في المسلمين أم في المشركين ؟ سؤال توبيخ وتعيير ، فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك .
قوله تعالى : { قالوا كنا مستضعفين } ، عاجزين .
قوله تعالى : { في الأرض } ، يعني : أرض مكة .
قوله تعالى : { قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها } ، يعني : إلى المدينة وتخرجوا من مكة ، من بين أهل الشرك ؟ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم ، وقال : { فأولئك مأواهم } ، منزلهم .
قوله تعالى : { جهنم وساءت مصيراً } ، أي : بئس المصير إلى جهنم . ثم استثنى أهل العذر منهم فقال : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة }
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا }
هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات ، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم ، ويقولون لهم : { فِيمَ كُنْتُمْ } أي : على أي حال كنتم ؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين ؟ بل كثرتم سوادهم ، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين ، وفاتكم الخير الكثير ، والجهاد مع رسوله ، والكون مع المسلمين ، ومعاونتهم على أعدائهم .
{ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْض } أي : ضعفاء مقهورين مظلومين ، ليس لنا قدرة على الهجرة . وهم غير صادقين في ذلك لأن الله وبخهم وتوعدهم ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، واستثنى المستضعفين حقيقة .
ولهذا قالت لهم الملائكة : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } وهذا استفهام تقرير ، أي : قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة ، فحيثما كان العبد في محل لا يتمكن فيه من إظهار دينه ، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله ، كما قال تعالى : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم : { فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وهذا كما تقدم ، فيه ذكر بيان السبب الموجِب ، فقد يترتب عليه مقتضاه ، مع اجتماع شروطه وانتفاء موانعه ، وقد يمنع من ذلك مانع .
وفي الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات ، وتركها من المحرمات ، بل من الكبائر ، وفي الآية دليل على أن كل مَن توفي فقد استكمل واستوفى ما قدر له من الرزق والأجل والعمل ، وذلك مأخوذ من لفظ " التوفي " فإنه يدل على ذلك ، لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن متوفيًا .
وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم ، لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه التقرير والاستحسان منهم ، وموافقته لمحله .
بعد ذلك يتحدث عن فريق من القاعدين ؛ أولئك الذين يظلون قاعدين في دار الكفر لا يهاجرون ؛ تمسك بهم أموالهم ومصالحهم ، أو يمسك بهم ضعفهم عن مواجهة متاعب الهجرة وآلام الطريق - وهم قادرون لو أرادوا واعتزموا التضحية - أن يهاجروا . . حتى يحين أجلهم ؛ وتأتي الملائكة لتتوفاهم . يتحدث عنهم فيصورهم صورة زرية منكرة ؛ تستنهض كل قاعد منهم للفرار بدينه وعقيدته ، وبمصيره عند ربه ؛ من هذا الموقف الذي يرسمه لهم :
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض . قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ فأولئك مأواهم جهنم ، وساءت مصيرا . إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ، ولا يهتدون سبيلا . فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورًا ) . .
لقد كان هذا النص يواجه حالة واقعة في الجزيرة العربية - في مكة وغيرها - بعد هجرة رسول الله [ ص ] وقيام الدولة المسلمة . فقد كان هناك مسلمون لم يهاجروا . حبستهم أموالهم ومصالحهم - حيث لم يكن المشركون يدعون مهاجرا يحمل معه شيئا من ماله - أو حبسهم إشفاقهم وخوفهم من مشاق الهجرة - حيث لم يكن المشركون يدعون مسلما يهاجر حتى يمنعوه ويرصدوا له في الطريق . . وجماعة حبسهم عجزهم الحقيقي ، من الشيوخ والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة للهرب ولا يجدون سبيلا للهجرة . .
وقد اشتد أذى المشركين لهؤلاء الباقين من أفراد المسلمين ؛ بعد عجزهم عن إدراك الرسول [ ص ] وصاحبه ، ومنعهما من الهجرة . وبعد قيام الدولة المسلمة . وبعد تعرض الدولة المسلمة لتجارة قريش في بدر ، وانتصار المسلمين ذلك الانتصار الحاسم . فأخذ المشركون يسومون هذه البقية المتخلفة ألوانا من العذاب والنكال ، ويفتنونهم عن دينهم في غيظ شديد .
وقد فتن بعضهم عن دينهم فعلا ؛ واضطر بعضهم إلى إظهار الكفر تقية ، ومشاركة المشركين عبادتهم . . وكانت هذه التقية جائزة لهم يوم أن لم تكن لهم دولة يهاجرون إليها - متى استطاعوا - فأما بعد قيام الدولة ، ووجود دار الإسلام فإن الخضوع للفتنة ، أو الالتجاء للتقية ، وفي الوسع الهجرة والجهر بالإسلام ، والحياة في دار الإسلام . . أمر غير مقبول .
وهكذا نزلت هذه النصوص ؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم ، أو إشفاقا من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق . . حتى يحين أجلهم . . تسميهم : ( ظالمي أنفسهم ) . . بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام ، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة . وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة ، وتوعدهم ( جهنم وساءت مصيرًا ) . . مما يدل على أنها تعني الذين فتنواعن دينهم بالفعل هناك !
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة ، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار : ( إن الذين توفاهم الملائكة . . ظالمي أنفسهم . . قالوا : فيم كنتم ؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ! قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة ، فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إن القرآن يعالج نفوسا بشرية ؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها ؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة . . لذلك يرسم هذا المشهد . . إنه يصور حقيقة . ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام ، في علاج النفس البشرية . .
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية ، وتتحفز لتصور ما فيه . وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافا وتحفزا وحساسية .
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم . وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم . . ظالمي أنفسهم . وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها . إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه ؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه ، فهذه هي اللحظة الأخيرة .
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت . بل يقلبون ماضيهم ، ويستنكرون أمرهم ! ويسألونهم : فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم ؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا :
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع ؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع !
ويجيب هؤلاء المحتضرون ، في لحظة الاحتضار ، على هذا الاستنكار ، جوابا كله مذلة ، ويحسبونه معذرة على ما فيه من مذلة .
( قالوا : كنا مستضعفين في الأرض ) . .
كنا مستضعفين . يستضعفنا الأقوياء . كنا أذلاء في الأرض لا نملك من أمرنا شيئا .
وعلى كل ما في هذا الرد من مهانة تدعو إلى الزراية ؛ وتنفر كل نفس من أن يكون هذا موقفها في لحظة الاحتضار ، بعد أن يكون هذا موقفها طوال الحياة . . فإن الملائكة لا يتركون هؤلاء المستضعفين الظالمي أنفسهم . بل يجبهونهم بالحقيقة الواقعة ؛ ويؤنبونهم على عدم المحاولة ، والفرصة قائمة : ( قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟ ! ) . .
إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم - إذن - على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان . . إنما كان هناك شيء آخر . . حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام . ويمسكهم في الضيق وهناك أرض الله الواسعة . والهجرة إليها مستطاعة ؛ مع احتمال الآلام والتضحيات .
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حَيْوَة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال : قطع على{[8134]} أهل المدينة بعْثٌ ، فاكتتبت فيه ، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته ، فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فَيُرمى{[8135]} به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب عنقه فيقتل ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[8136]} { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } رواه الليث عن أبي الأسود{[8137]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرَّمَادِي ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري – حدثنا محمد بن شَرِيك المكي ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم بفعل بعض{[8138]} قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين{[8139]} وأكرهوا ، فاستَغْفَروا لهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [ قَالُوا فِيمَ كُنْتُم } إلى آخر ]{[8140]} الآية ، قال : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية : لا عذر لهم . قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه{[8141]} الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ } الآية{[8142]} [ البقرة : 8 ] .
وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش ، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة ، منهم : علي بن أمية بن خَلَف ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاص بن منبه{[8143]} بن الحجاج ، والحارث بن زَمْعة .
وقال الضحاك : نزلت في ناس{[8144]} من المنافقين ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه{[8145]} الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع ، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } أي : بترك الهجرة { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي : لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } أي : لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ]{[8146]} } .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، حدثني يحيى بن حسان ، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدثني خبيب{[8147]} بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب : أما بعد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " {[8148]} .
وقال السدي : لما أسر العباس وَعقِيل ونَوْفَل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : " افد نفسك وابن أخيك " قال : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ، ونشهد شهادتك ؟ قال : " يا عباس ، إنكم خاصمتم فخُصمتم " . ثم تلا عليه هذه الآية : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [ فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ]{[8149]} } رواه ابن أبي حاتم .