تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (97)

التفسير :

97- إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ . . . تبين هذه الآ ية موقف المسلمين الذين تخلفوا عن الهجرة من مكة إلى المدينة ، مع قدرتهم على هذه الهجرة .

وقد ورد في كتب التفسير : أنها تشير إلى جماعة من المنافقين .

جاء في تفسير ابن كثير عن الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب ، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة ، في كل من أقام بين ظهراني المشركين ، وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع ، وبنص هذه الآية .

وجاء في تفسير الطبري ، عدد من الآثار في سبب نزول هذه الآية ، تفيد هذه الآثار في جملتها : أن الآية نزلت فيمن تخلف عن الهجرة ؛ وآثر البقاء في دار الكفر .

عن ابن عباس قال :

كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ؛ فقال المسلمون : ''كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا ! فاستغفروا لهم'' فنزلت : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ . الآية .

قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر له .

قال : فخرجوا من مكة فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة{[74]} فنزلت فيهم : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ . ( العنكبوت : 10 )

فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا وأيسوا من كل خير ، ثم نزلت فيهم : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ . ( النحل : 110 ) ، فكتبوا إليهم بذلك ''إن الله قد جعل لكم مخرجا'' فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل{[75]} .

ِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ . . أي : تتوفاهم .

ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ . . . أي : في حال ظلمهم لأنفسهم حيث أسلموا وآثروا البقاء بين ظهراني المشركين في دار الكفر ، وتحملوا الذل والهوان والقهر- وهم قادرون على التخلص مما هم فيه-من كبت وإذلال –إلى بلد يأمنون فيه على دينهم وأموالهم وأنفسهم .

إن هؤلاء حين تقبض الملائكة أرواحهم ، أي : ملك الموت وأعوانه .

قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ . أي : في شيء كنتم من أمر دينكم الذي يأمركم بالهجرة ، والمراد : لم مكثتم هنا وتركتم الهجرة ، قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ . قالوا : معتذرين في وقت لا ينفع فيه الاعتذار : كنا نعيش مقهورين تحت أيدي الكفار ؛ لا نقدر على الخروج من مكة ، ولا للذهاب في الأرض .

قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا . . . أي : إن عذركم عن ذلك التقصير غير مقبول ، حيث كان في إمكانكم الهجرة إلى الحبشة أو إلى المدينة ، واللحاق بإخوانكم المهاجرين ، والانضمام إلى صفوفهم ، ليزدادو بكم قوة ومنفعة .

من تفسير الزمخشري :

وفي هذه الآية دليل على أن الرجل إذا كان في بلد يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب لبعض الأسباب ، والعوائق عن إقامة الدين ، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله ، وأدوم على العبادة ، حقت عليه المهاجرة .

اللهم ، إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني ؛ فاجعلها سببا في خاتمة الخير ، وادرك المرجو من فضلك ، والمبتغى من رحمتك ، وصل جواري لك ، بعكوفي عند بيتك ، بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة{[76]} .

فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا . . أي : فجزاء هؤلاء الذين تخلفوا عن الهجرة أن يكون مسكنهم جهنم ؛ لتركهم الفريضة المحتومة _فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام _أو لنفاقهم وكفرهم ، ونصرتهم أعداء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم {[77]} .


[74]:كفروا بعد إسلامهم.
[75]:تفسير الطبري تحقيق محمود شاكر، 9/103 وأفاد أن هذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسير 2/552، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2/205 ،وهو في السنن الكبري للبيهقي 2/14 ،وقد رأى المحقق محمود شاكر توثيق رواة هذا الأثر.
[76]:تفسير الكشاف 1/293 ،وهو دعاء عالم آثر جوار الله في البيت الحرام؛ حتى سمى جار الله.
[77]:تفسير الألوسي: روح المعاني 5/126.