الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمۡۖ قَالُواْ كُنَّا مُسۡتَضۡعَفِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ قَالُوٓاْ أَلَمۡ تَكُنۡ أَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٗ فَتُهَاجِرُواْ فِيهَاۚ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (97)

قوله تعالى : { إِنَّ الذين توفاهم الملائكة ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ }[ النساء :97 ] . المرادُ بهذه الآيةِ إلى قوله : { مَصِيراً } جماعةٌ من أهل مكَّة كانوا قد أسلموا ، فَلَمَّا هاجَرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ ، وفُتِنَ منهم جماعةٌ فافتتنوا ، فلما كَانَ أَمْرُ بَدْرٍ ، خَرَجَ منهم قومٌ مع الكُفَّار ، فقُتِلُوا ببَدْرٍ ، فنزلَتِ الآية فيهم .

قال ( ع ) : والذي يَجْرِي مع الأصولِ أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ هؤلاء مرتدًّا ، فهو كافرٌ ، ومأواه جهنَّم على جهة الخلودِ المؤبدِ ، وهذا هو ظاهرُ أمْرِ هؤلاءِ ، وإنْ فَرَضْنا فيهم مَنْ مَاتَ مؤمناً ، وأُكْرِهَ عَلَى الخُرُوجِ ، أوْ ماتَ بمكَّة ، فإنما هو عاصٍ في ترك الهِجْرة ، مأواه جهنَّم على جهة العِصْيَانِ ، دُونَ خُلُودٍ .

وقوله تعالى : { توفاهم } يحتملُ أن يكون فعلاً ماضياً ، ويحتملُ أنْ يكون مستقْبَلاً ، على معنى : ( تَتَوَفَّاهُمْ ) ، فحذِفَتْ إحدى التائَيْنَ ، وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي مِنْ هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية ، و{ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ } نصبٌ علَى الحالِ ، أي : ظالميها بتَرْكِ الهِجْرَة ، وَ{ توفاهم الملائكة } معناه : تقبِضُ أرواحَهُمْ ، قال الزَّجَّاج : وحُذِفَتِ النونُ مِنْ ظَالِمِينَ ، تخفيفاً كقوله : { بالغي الكعبة }[ المائدة : 95 ] ، وقولُ الملائكة : { فِيمَ كُنتُمْ } : تقريرٌ وتوبيخٌ ، وقولُ هؤلاء : { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } : اعتذار غيرُ صحيحٍ ، إذ كانوا يستطيعُونَ الحِيَلَ ، ويَهْتَدُونَ السُّبُلَ ، ثم وقَفَتْهُم الملائكةُ على ذَنْبهم بقولهم :

{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة } ، والأرْضُ الأولى : هي أرْضُ مكَّة خاصَّة ، وأرْضُ اللَّهِ هي الأرضُ بالإطلاق ، والمراد : { فتهاجِرُوا فيها } إلى مواضعِ الأَمْنِ ، وهذه المقاوَلَةُ إنما هِيَ بعد توفي الملائكَةِ لأرواحِ هؤلاءِ ، وهي دالَّة على أنهم ماتوا مُسْلِمِينَ وإلاَّ فلو ماتوا كافِرِينَ ، لم يُقَلْ لهم شيءٌ مِنْ هذا .