ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } يعني : في شك { من البعث فإنا خلقناكم } يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل { من تراب ثم من نطفة } يعني : ذريته ، والنطفة هي المني ، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهي : الدم الغليظ المتجمد ، الطري وجمعها علق ، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً { ثم من مضغة } وهي لحمة قليلة قدر ما يمضع { مخلقة وغير مخلقة } قال ابن عباس وقتادة : { مخلقة } أي : تامة وغير مخلقة غير تامة . أي : ناقصة الخلق . وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط . روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته . { لنبين لكم } كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة . وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة . { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا تمجه ولا تسقطه { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة . { ثم نخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلاً } أي : صغراً ، ولم يقل : أطفالاً ، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد . وقيل : تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور . { ثم لتبلغوا أشدكم } يعني : الكمال والقوة . { ومنكم من يتوفى } من قبل بلوغ الكبر ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة لا نبات فيها ، { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر ، { اهتزت } تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، { وربت } أي : ارتفعت وزادت ، وربأت بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة . أي ارتفعت وعلت . قال المبرد : أراد اهتز وربا نباتها ، فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي : صنف حسن يبهج به من رآه ، أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث .
{ 5 - 7 } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ *ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ }
يقول تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ } أي : شك واشتباه ، وعدم علم بوقوعه ، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم ، وتصدقوا رسله في ذلك ، ولكن إذا أبيتم إلا الريب ، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما ، كل واحد منهما ، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه ، ويزيل عن قلوبكم الريب .
أحدهما : الاستدلال بابتداء خلق الإنسان ، وأن الذي ابتدأه سيعيده ، فقال فيه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وذلك بخلق أبي البشر آدم عليه السلام ، { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : مني ، وهذا ابتداء أول التخليق ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي : تنقلب تلك النطفة ، بإذن الله دما أحمر ، { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } أي : ينتقل الدم مضغة ، أي : قطعة لحم ، بقدر ما يمضغ ، وتلك المضغة تارة تكون { مُخَلَّقَةٍ } أي : مصور منها خلق الآدمي ، { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } تارة ، بأن تقذفها الأرحام قبل تخليقها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } أصل نشأتكم ، مع قدرته تعالى ، على تكميل خلقه في لحظة واحدة ، ولكن ليبين لنا كمال حكمته ، وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .
{ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ونقر ، أي : نبقي في الأرحام من الحمل ، الذي لم تقذفه الأرحام ، ما نشاء إبقاءه إلى أجل مسمى ، وهو مدة الحمل . { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طِفْلًا } لا تعلمون شيئا ، وليس لكم قدرة ، وسخرنا لكم الأمهات ، وأجرينا لكم في ثديها الرزق ، ثم تنتقلون طورا بعد طور ، حتى تبلغوا أشدكم ، وهو كمال القوة والعقل .
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } من قبل أن يبلغ سن الأشد ، ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر ، أي : أخسه وأرذله ، وهو سن الهرم والتخريف ، الذي به يزول العقل ، ويضمحل ، كما زالت باقي القوة ، وضعفت .
{ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي : لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا مما كان يعلمه قبل ذلك ، وذلك لضعف عقله ، فقوة الآدمي محفوفة بضعفين ، ضعف الطفولية ونقصها ، وضعف الهرم ونقصه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } والدليل الثاني ، إحياء الأرض بعد موتها ، فقال الله فيه : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي : خاشعة مغبرة لا نبات فيها ، ولا خضر ، { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ } أي : تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت بعد خشوعها وذلك لزيادة نباتها ، { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ } أي : صنف من أصناف النبات { بَهِيجٍ } أي : يبهج الناظرين ، ويسر المتأملين ، فهذان الدليلان القاطعان ، يدلان على هذه المطالب الخمسة ، وهي هذه .
أم إن الناس في ريب من البعث ? وفي شك من زلزلة الساعة ? إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة ، ولينظروا في أنفسهم ، وفي الأرض من حولهم ، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور ؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين :
( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا ؛ ثم لتبلغوا أشدكم ؛ ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . . )
إن البعث إعادة لحياة كانت ، فهو في تقدير البشر - أيسر من إنشاء الحياة . وإن لم يكن - بالقياس إلى قدرة الله - شيء أيسر ولا شيء أصعب . فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ) .
ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم ، ومنطقهم ، وإدراكهم ، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة ؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة ، والقلب المفتوح ، والحس المدرك . ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه .
فما هؤلاء الناس ? ما هم ? من أين جاءوا ? وكيف كانوا ? وفي أي الأطوار مروا ?
( فإنا خلقناكم من تراب ) . . والإنسان ابن هذه الأرض . من ترابها نشأ ، ومن ترابها تكون ، ومن ترابها عاش . وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض . اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه ؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب . ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء . وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب .
ولكن أين التراب وأين الإنسان ? أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب ، الفاعل المستجيب ، المؤثر المتأثر ، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء ؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب . .
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد ، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث ، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب !
( ثم من نطفة . ثم من علقة . ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة - لنبين لكم - ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ؛ ثم نخرجكم طفلا . . . ) .
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية ، مسافة هائلة ، تضمر في طياتها السر الأعظم . سر الحياة . السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر ، بعد ملايين الملايين من السنين ، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين . والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله ، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه ، مهما طمح الإنسان ، وتعلق بأهداب المحال !
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة ، وتحول العلقة إلى مضغة ، وتحول المضغة إلى إنسان ! فما تلك النطفة ? إنها ماء الرجل . والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية . وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم ، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم .
وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي . . في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم - بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه - في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل : صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر ، وضخامة وضآلة ، وقبح ووسامة ، وآفة وصحة . . كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية : من ميول ونزعات ، وطباع واتجاهات ، وانحرافات واستعدادات . .
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة ? وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب ، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر ، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان ? !
ومن العلقة إلى المضغة ، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا . ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم ؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام .
( لنبين لكم ) . . فهنا محطة بين المضغة والطفل ، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة : ( لنبين لكم ) . لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة . وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن .
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين : ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى )فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع . ( ثم نخرجكم طفلا ) . . ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير !
إنها في الزمان - تعادل في العادة - تسعة أشهر . ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل . النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب ، ذو الأعضاء والجوارح ، والسمات والملامح ، والصفات والاستعدادات ، والميول والنزعات . .
إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات . .
ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور ، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام ، في خفية عن الأنظار !
( ثم لتبلغوا أشدكم ) . . فتستوفوا نموكم العضلي ، ونموكم العقلي ، ونموكم النفسي . . وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان ! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد ، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها ، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل ، وهي ماء مهين !
ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا . .
فاما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي . وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال . فبعد العلم ، وبعد الرشد ، وبعد الوعي ، وبعد الاكتمال . . إذا هو يرتد طفلا . طفلا في عواطفه وانفعالاته . طفلا في وعيه ومعلوماته . طفلا في تقديره وتدبيره . طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه . طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا ، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا . طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة ، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول ، وجادل في الله وصفاته بالباطل !
ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات ، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان .
( وترى الأرض هامدة ، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ) .
والهمود درجة بين الحياة والموت . وهكذا تكون الأرض قبل الماء ، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء . فإذا نزل عليها الماء ( اهتزت وربت )وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام ، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات ( من كل زوج بهيج ) . وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون ، وتنتفض بعد الهمود ?
وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا ، فيسلكهم في آية واحدة من آياته . وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة . وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة ، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مّنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطْفَةٍ ثُمّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضْغَةٍ مّخَلّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلّقَةٍ لّنُبَيّنَ لَكُمْ وَنُقِرّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمّ لِتَبْلُغُوَاْ أَشُدّكُمْ وَمِنكُمْ مّن يُتَوَفّىَ وَمِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
وهذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم ، اتباعا منه للشيطان المريد وتنبيه له على موضع خطأ قيله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه . قال : يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكُم استعظاما منكم لذلك ، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب ثم إنشائناكم من نطفة آدم ثم تصريفناكم أحوالاً حالاً بعد حال ، من نطفة إلى علقة ، ثم من علقة إلى مُضغة ، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به ، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذّر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : مخلّقةٍ وغَيْرِ مُخَلّقَةٍ فقال بعضهم : هي من صفة النطفة . قال : ومعنى ذلك : فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا : فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيّا وأما غير مخلقة فما دفعته الأرحام من النّطَف وألقته قبل أن يكون خلقا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : إذا وقعت النطفة في الرحم ، بعث الله ملَكا فقال : يا ربّ مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلّقة ، مجّتها الأرحام دما ، وإن قال : مخلقة ، قال : يا ربّ فما صفة هذه النطفة أذكر أم أنثى ؟ ما رزقها ما أجلها ؟ أشقيّ أو سعيد ؟ قال : فيقال له : انطلق إلى أمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة قال : فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها .
وقال آخرون : معنى قلك : تامة وغير تامة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا سليمان ، قال : حدثنا أبو هلال ، عن قَتادة في قول الله : مُخَلّقَةٍ وغَيرَ مُخَلّقَةٍ قال : تامة وغير تامة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن قَتادة : مُخُلّقَةٍ وغيرِ مُخَلّقَةٍ فذكر مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك المضغة إنسانا وغير مصوّرة ، فإذا صوّرت فهي مخَلقة وإذا لم تصوّر فهي غير مخَلقة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله : مُخَلّقَةٍ قال : السّقط ، مخلّقة وغَير مُخَلّقَة .
حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : مُخَلّقَةٍ وَغيرٍ مُخَلّقَةٍ قال : السقط ، مخلوق وغير مَخلوق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر أنه قال في النطفة والمضغة إذا نكست في الخلق الرابع كانت نَسَمة مخلقة ، وإذا قذفتها قبل ذلك فهي غير مخلقة .
قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن حماد بن أبي سلمة ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي العالية : مُخَلّقَةٍ وغَيرِ مُخَلّقَةٍ قال : السقط .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : المخلقة المصورة خلقا تامّا ، وغير مخلقة : السّقط قبل تمام خلقه لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة ، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويّا إلا التصوير وذلك هو المراد بقوله : مُخَلّقَةٍ وغَيرِ مُخَلّقَةٍ خلقا سويّا ، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح .
وقوله : لِنُبَيّنَ لَكُمْ يقول تعالى ذكره : جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التامّ ، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرّفكم ابتداءنا خلقكم .
وقوله : وَنُقِرّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّى يقول تعالى ذكره : من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية ، فانا نقرّه في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله ، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها ، فيخرج .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَنُقِرّ فِي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : التمام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَنُقِرّ فِي الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّى قال : الأجل المسمى : أقامته في الرحم حتى يخرج .
وقوله : ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً يقول تعالى ذكره : ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلاً صغارا ووحّد «الطفل » ، وهو صفة للجميع ، لأنه مصدر مثل عدل وزور . وقوله : ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ يقول : ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم .
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في الأشدّ ، والصواب من القول فيه عندنا بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
يقول تعالى ذكره : ومنكم أيها الناس من يُتَوفى قبل أن يبلغ أشدّه فيموت ، ومنكم من يُنْسَأ في أجله فيعمر حتى يهرم فيردّ من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشدّه إلى أرذل عمره ، وذلك الهرم ، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا . ومعنى الكلام : ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشدّه لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ كان يعلمه شَيْئا .
وقوله : وَتَرَى الأرْضَ هامِدَةً يقول تعالى ذكره : وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الاَثار من النبات والزرع . وأصل الهمود : الدروس والدثور ، ويقال منه : همدت الأرض تهمد هُمودا ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :
قالَتْ قُتَيْلَةُ ما لِجِسْمِكَ شاحِبا *** وأرَى ثِيابَكَ بالِياتٍ هُمّدَا
والهُمّد : جمع هامد ، كما الرّكّع جمع راكع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : وَتَرَى الأرْضَ هامدَةً قال : لا نبات فيها .
وقوله : فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاء اهْتَزّتْ يقول تعالى ذكره : فإذا نحن أنزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها والمطرَ من السماء اهْتَزّتْ يقول : تحركت بالنبات ، وَرَبَتْ يقول : وأضعفت النبات بمجيء الغيث .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال : عُرِف الغيث في ربوها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : اهْتَزّتْ وَرَبَتْ قال : حسنت ، وعرف الغيث في ربوها .
وكان بعضهم يقول : معنى ذلك : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت . ويوجه المعنى إلى الزرع ، وإن كان الكلام مخرجه على الخبر عن الأرض . وقرأت قراء الأمصار : وَرَبَتْ بمعنى : الربو ، الذي هو النماء والزيادة . وكان أبو جعفر القارىء يقرأ ذلك : «وَرَبأَتْ » بالهمز .
حُدثت عن الفراء ، عن أبي عبد الله التميمي عنه .
وذلك غلط ، لأنه لا وجه للرب ههنا ، وإنما يقال ربأ بالهمز بمعنى : حرس من الربيئة ، ولا معنى للحراسة في هذا الموضع . والصحيح من القراءة ما عليه قراء الأمصار .
وقوله : وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ يقول جلّ ثناؤه : وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث مِنْ كُلّ نوع بهيج . يعني بالبهيج : البهج ، وهو الحسن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهيجٍ قال : حسن .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب » الشك ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث » بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المنى الذي يكون من البشر ، و «النطفة » تقع على قليل الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم ، وقوله تعالى : { ثم من علقة } ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله تعالى : { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله تعالى : { مخلقة } معناه متممة البنية ، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً » بالنصب «وغيرَ » بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما : هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين ، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ » ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ » بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم » بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر » وفي «يخرجكم » والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء » بكسر النون ، و «الأجل المسمى » هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً ، وقوله تعالى : { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً ، واختلف الناس في «الأشد » من ثمانية عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام{[8305]} ، و «الأشد » في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه{[8306]} واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر ، وقرأ الجمهور «العمر » مشبعة وقرأ نافع «العمر » مخففة الميم واختلف عنه ، وقوله تعالى : { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى .
{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }
هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد ، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال الأعشى : [ الكامل ]
قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً . . . وأرى ثيابك باليات همدا{[8307]}
واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ جعفر بن القعقاع{[8308]} «وربأت » بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر{[8309]} وخالد بن إلياس{[8310]} وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو{[8311]} ، و «الزوج » النوع ، و «البهيج » فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره .
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الارحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً }
أعاد خطاب الناس بعد أن أنذرهم بزلزلة الساعة ، وذكر أن منهم من يجادل في الله بغير علم ، فأعاد خطابهم بالاستدلال على إمكان البعث وتنظيره بما هو أعظم منه . وهو الخلق الأول . قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] . فالذي خلق الإنسان من عدم وأخرجه من تراب ، ثم كونه من ماء . ثم خلقه أطواراً عجيبة ، إلى أن يتوفاه في أحوال جسمه وفي أحوال عقله وإدراكه ، قادر على إعادة خلقه بعد فنائه .
ودخول المشركين بادىء ذي بدء في هذا الخطاب أظهر من دخولهم في الخطاب السابق لأنهم الذين أنكروا البعث ، فالمقصود الاستدلال عليهم ولذلك قيل إن الخطاب هنا خاص بهم .
وجُعل ريْبهم في البعث مفروضاً ب ( إن ) الشرطية مع أن ريبهم محقق للدلالة على أن المقام لما حف به من الأدلة المبطلة لريبهم ينزل منزلة مقام من لا يتحقق ريبُه كما في قوله تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أنّ كنتم قوماً مسرفين } [ الزخرف : 5 ] .
والظرفية المفادة ب ( في ) مجازية . شبهت ملابسة الريب إياهم بإحاطة الظرف بالمظروف .
وجملة { فإنا خلقناكم من تراب } واقعة موقع جواب الشرط ولكنها لا يصلح لفظها لأن يكون جواباً لهذا الشرط بل هي دليل الجواب ، والتقدير : فاعلموا أو فنعلمكم بأنه ممكن كما خلقناكم من تراب مثل الرُّفات الذي تصير إليه الأجساد بعد الموت ، أو التقدير : فانظروا في بدء خلقكم فإنا خلقناكم من تراب .
والذي خُلق من تراب هو أصل النوع ، وهو آدم عليه السلام وحواء ، ثم كونت في آدم وزوجه قوة التناسل ، فصار الخلق من النطفة فلذلك عطفت ب ( ثم ) .
والنطفة : اسم لمنّي الرجل ، وهو بوزن فُعلة بمعنى مفعول ، أي منطوف ، والنَطْف : القطر والصب . والعلقة : القطعة من الدم الجامد اللين .
والمضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يُمضغ مثله ، وهي فعلة بمعنى مَفعولة بتأويل : مقدار ممضوغة . و ( ثم ) التي عطف بها { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة } عاطفة مفردات فهي للتراخي الحقيقي .
و ( مِن ) المكررة أربع مرات هنا ابتدائية وتكريرها توكيد .
وكون الإنسان مخلوقاً من النطفة لأنه قد تقرر في علم الطب أن في رحم المرأة مُدة الحيض جزءاً هو مقر الأجرام التي أعدت لأن يتكون منها الجنين ، وهذا الجُزء من الرحم يسمى في الاصطلاح الطبي ( المَبِيض ) بفتح الميم وكسر الموحدة على وزن اسم المكان لأنه مقر بَيضات دقيقة هي حُبيبات دقيقة جداً وهي من المرأة بمنزلة البيضة من الدجاجة أو بمنزلة حبوب بيض الحوت ، مودعة في كرة دقيقة كالغِلاف لها يقال لها ( الحُويصلة ) بضم الحاء بصيغة تصغير حَوصلة تشتمل على سائل تسبح فيه البيضة فإذا حاضت المرأة ازدادت كمية ذلك السائل الذي تسبح فيه البيضة فأوجب ذلك انفجار غلاف الحُويصلة ، فيأخذ ذلك السائل في الانحدار يَحمل البيضة السابحة فيه إلى قناة دقيقة تسمى ( بوق فلوبيوس ) لشبهه بالبُوق ، وأضيف إلى ( فلوبيوس ) اسم مكتشفه وهو البزرخ بين المَبِيض والرحم ، فإذا نزل فيه ماء الرجل وهو النطفة بعد انتهاء سيلان دم الحيض لقحت فيه البيضة واختلطت أجزاؤها بأجزاء النطفة المشتملة على جرثومات ذات حياة وتمكث مع البيضة متحركة مقدار سبعة أيام تكون البيضة في أثنائها تتطور بالشكل بشِبه تقسيم من أثر ضغط طبيعي .
وفي نهاية تلك المدة تصل البيضة إلى الرحم وهنالك تأخذ في التشكل ، وبعد أربعين يوماً تصير البيضة عَلَقة في حجم نملة كبيرة طولها من 12 إلى 14 مليمتر ، ثم يزداد تشكلها فتصير قطعة صغيرة من لَحم هي المسماة ( مُضغة ) طولها ثلاثة سنتيمتر تلوح فيها تشكلات الوجه والأنف خفيّة جداً كالخطوط ، ثم يزداد التشكل يوماً فيوماً إلى أن يستكمل الجنين مدته فيندفعَ للخروج وهو الولادة .
فقوله تعالى : { مخلقة وغير مخلقة } صفة { مضغة } . وذلك تطور من تطورات المضغة . أشار إلى أطوار تشكل تلك المضغة فإنها في أول أمرها تكون غير مخلّقة ، أي غير ظاهر فيها شَكل الخِلقة ، ثم تكون مخلّقة ، والمراد تشكيل الوجه ثم الأطراف ، ولذلك لم يُذكر مثل هذين الوصفين عند ذكر النطفة والعلقة ، إذ ليس لهما مثل هذين الوصفين بخلاف المضغة . وإذْ قد جعلت المضغة من مبادىء الخلق تعيّن أن كلا الوصفين لازِمان للمضغة ، فلا يستقيم تفسير من فسّر غير المخلقة بأنها التي لم يكمل خلقها فسقطت .
والتخليق : صيغة تدل على تكرير الفعل ، أي خلقاً بعد خلق ، أي شكلاً بعد شكل .
وقُدم ذكر المخلقة على ذكر غير المخلقة على خلاف الترتيب في الوجود لأن المخلقة أدخل في الاستدلال ، وذُكر بعده غير المخلقة لأنه إكمال للدليل وتنبيه على أن تخليقها نشأ عن عدم . فكلا الحالين دليل على القدرة على الإنشاء وهو المقصود من الكلام .
ولذلك عقب بقوله تعالى { لنبين لكم } ، أي لنظهر لكم إذا تأملتم دليلاً واضحاً على إمكان الإحياء بعد الموت .
واللام للتعليل متعلقة بما في تضمينه جواب الشرط المقدرُ من فعل ونحوه تدل عليه جملة { فإنا خلقناكم من تراب } الخ ، وهو فعل : فاعلموا ، أو فنُعلمكم ، أو فانظروا .
وحذف مفعول { لِنُبيّن } لتذهب النفس في تقديره كل مذهب مما يرجع إلى بيان ما في هذه التصرفات من القدرة والحكمة ، أي لنبيّن لكم قدرتنا وحكمتنا .
وجملة { ونقرّ } عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } . وعدل عن فعل المضي إلى الفعل المضارع للدلالة على استحضار تلك الحالة لما فيها من مشابهة استقرار الأجساد في الأجداث ثم إخراجها منها بالبعث كما يخرج الطفل من قرارة الرحم ، مع تفاوت القرار . فمن الأجنة ما يبقى ستة أشهر ، ومنها ما يزيد على ذلك ، وهو الذي أفاده إجمال قوله تعالى : { إلى أجل مسمى } . والاستدلال في هذا كله بأنه إيجاد بعد العدم وإعدام بعد الوجود لتبيين إمكان البعث بالنظير وبالضد .
والأجل : الأمد المجعول لإتمام عمل ما ، والمراد هنا مدة الحمل .
والمسمّى : اسم مفعول من سَماه ، إذا جعل له اسماً ، ويستعار المسمّى للمعيّن المضبوط تشبيهاً لضبط الأمور غيرِ المشخصة بعدد معيّن أو وقت محسوب ، بتسمية الشخص بوجه شبه يُميزه عما شابهه . ومنه قول الفقهاء : المهر المسمّى ، أي المعيّن من نقد معدود أو عَرض موصوف ، وقول الموثقين : وسمّى لها من الصداق كذا وكذا .
ولكل مولود مدة معينة عند الله لبقائه في رحم أمه قبلَ وضعه . والأكثر استكمال تسعة أشهر وتسعة أيام ، وقد يكون الوضع أسرع من تلك المدة لعارض ، وكلٌّ معين في علم الله تعالى . وتقدم في قوله تعالى : { إلى أجل مسمى فاكتبوه } في [ سورة البقرة : 282 ] .
وعطف جملة { ثم نخرجكم طفلاً } بحرف ( ثم ) للدلالة على التراخي الرتبي فإن إخراج الجنين هو المقصود . وقوله { طفلاً } حال من ضمير { نخرجكم ، } أي حال كونكم أطفالاً . وإنما أفرد { طفلاً } لأن المقصود به الجنس فهو بمنزلة الجمع .
وجملة { ثم لتبلغوا أشدكم } مرتبطة بجملة { ثم نخرجكم طفلاً } ارتباط العلّة بالمعلول ، واللام للتعليل . والمعلّل فعل { نخرجكم طفلاً } .
وإذ قد كانت بين حال الطفل وحال بلوغ الأشد أطوار كثيرة عُلم أن بلوغ الأشد هو العلّة الكاملة لحكمة إخراج الطفل . وقد أشير إلى ما قبل بلوغ الأشد وما بعده بقوله { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وحرف ( ثم ) في قوله : { ثم لتبلغوا أشدكم } تأكيد لمثله في قوله { ثم نخرجكم طفلاً } . هذا ما ظهر لي في اتّصال هذه الجملة بما قبلها وللمفسرين توجيهات غير سالمة من التعقب ذكرها الألوسي .
وإنما جُعل بلوغ الأشد علّة لأنه أقوى أطوار الإنسان وأجلى مظاهر مواهبه في الجسم والعقل وهو الجانب الأهم كما أومأ إلى ذلك قوله بعد هذا { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } فجعل « الأشد » كأنه الغاية المقصودة من تطويره .
والأشُدّ : سن الفتوة واستجماع القوى . وقد تقدم في [ سورة يوسف : 22 ] { ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً } ووقع في [ سورة المؤمن : 67 ] { ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً } فعطف طور الشيخوخة على طور الأشُد باعتبار أن الشيخوخة مقصد للأحياء لحبهم التعمير ، وتلك الآية وردت مورد الامتنان فذكر فيها الطور الذي يتملى المرء فيه بالحياة ، ولم يذكر في آية سورة الحج لأنها وردت مورد الاستدلال على الإحياء بعد العدم فلم يذكر فيها من الأطوار إلا ما فيه ازدياد القوة ونماء الحياة دون الشيخوخة القريبة من الاضمحلال ، ولأن المخاطبين بها فريق معيّن من المشركين كانوا في طور الأشد ، وقد نبهوا عقب ذلك إلى أن منهم نفراً يُردون إلى أرذل العمر ، وهو طور الشيخوخة بقوله : { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } .
وجيء بقوله { ومنكم من يتوفى } على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءاً ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث . والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار . وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن ( 67 ) : { ومنكم من يتوفى من قبل } وقوله { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } هو عديل قوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } . وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب .
وجُعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصوداً عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية . قال تعالى : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } [ يس : 68 ] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم .
وقوله { من بعد علم } أي بعدما كان علمه فيما قبل أرذل العمر .
و ( مِن ) الداخلة على ( بعد ) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة ( مِن ) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صُوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب ( من ) في قوله تعالى : { لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } في [ سورة النحل : 70 ] .
والآيتان بمعنى واحد فذكر ( مِن ) هنا تفنّن في سياق العبرتين .
و { شيئاً } واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوماً جديداً . ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك .
{ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } .
عطف على جملة { فإنا خلقناكم من تراب } ، والخطاب لغير معيّن فيعم كل من يسمع هذا الكلام .
وهذا ارتقاء في الاستدلال على الإحياء بعد الموت بقياس التمثيل لأنه استدلال بحالةٍ مشاهدَة فلذلك افتتح بفعل الرؤية ، بخلاف الاستدلال بخلق الإنسان فإن مبدأه غيرُ مشاهَد فقيل في شأنه { فإنا خلقناكم من تراب } الآية . ومحل الاستدلال من قوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } ، فهو مناسبُ قولِه في الاستدلال الأول { فإنا خلقناكم من تراب } ، فهمود الأرض بمنزلة موت الإنسان واهتزازُها وإنباتها بعد ذلك يماثل الإحياء بعد الموت .
والهمود : قريب من الخمود ، فهمود الأرض جَفافها وزوال نبتها ، وهمود النار خمودها .
والاهتزاز : التحرك إلى أعلى ، فاهتزاز الأرض تمثيل لحال ارتفاع ترابها بالماء وحال ارتفاع وجهها بما عليه من العشب بحال الذي يهتز ويتحرك إلى أعلى .
وربت : حصل لها رُبوّ بضمّ الراء وضم الموحدة وهو ازدياد الشيء يقال : رَبَا يربو رُبوا ، وفسر هنا بانتفاخ الأرض من تفتق النبت والشجر . وقرأ أبو جعفر { وربأت بهمزة مفتوحة بعد الموحدة ، أي ارتفعت . ومنه قولهم : رَبَأ بنفسه عن كذا ، أي ارتفع مجازاً ، وهو فعل مشتق من اسم الربيئة وهو الذي يعلو رُبوة من الأرض لينظر هل من عدوّ يسير إليهم .
والزوج : الصنف من الأشياء . أطلق عليه اسم الزوج تشبيهاً له بالزوج من الحيوان وهو صنف الذكر وصنف الأنثى ، لأن كل فرد من أحد الصنفين يقترن بالفرد من الصنف الآخر فيصير زوجاً فيسمى كلّ واحد منهما زوجاً بهذا المعنى ، ثم شاع إطلاقه على أحد الصنفين ، ثم أطلق على كلّ نوع وصنف وإن لم يكن ذكراً ولا أنثى ، فأطلق هنا على أنواع النبات .
والبهيج : الحسن المنظر السَارّ للناظر ، وقد سِيق هذا الوصف إدماجاً للامتنان في أثناء الاستدلال امتناناً بجمال صورة الأرض المنبتة ، لأن كونه بهيجاً لا دخل له في الاستدلال ، فهو امتنان محض كقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وقوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } [ الملك : 5 ] .