قوله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } . قال مقاتل وابن حيان : نزلت في رجل من بني غطفان يقال له مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله تعالى فيه { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } أي حراماً بغير حق .
قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } . أخبر عن مآله ، أي عاقبته تكون كذلك .
قوله تعالى : { وسيصلون سعيراً } . قراءة العامة بفتح الياء ، أي : يدخلونه . يقال : صلي النار يصلاها صليا وصلاء ، قال الله تعالى : { إلا من هو صال الجحيم } . وقرأ ابن عامر وأبو بكر بضم الياء ، أي : يدخلون النار ويحرقون ، نظيره قوله تعالى : { فسوف نصليه ناراً } . { سأصليه سقر } وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ليلة أسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، إحداهما قالصة على منخريه والأخرى على بطنه ، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ) .
ولما أمرهم بذلك ، زجرهم عن أكل أموال اليتامى ، وتوعد على ذلك أشد العذاب فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } أي : بغير حق . وهذا القيد يخرج به ما تقدم ، من جواز الأكل للفقير بالمعروف ، ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى .
فمَنْ أكلها ظلمًا ف { إنما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } أي : فإن الذي أكلوه نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم . { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي : نارًا محرقة متوقدة . وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب ، يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها ، وأنها موجبة لدخول النار ، فدل ذلك أنها من أكبر الكبائر . نسأل الله العافية .
( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً )
أما اللمسة الثانية ، فهي صورة مفزعة : صورة النار في البطون . . وصورة السعير في نهاية المطاف . . إن هذا المال . . نار . . وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود . هي النار من باطن وظاهر . هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود ، وحتى لتكاد تراها العيون ، وهي تشوي البطون والجلود !
ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية ، بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين . خلصتها من رواسب الجاهلية . هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب . وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس - أي مساس - بأموال اليتامى . . كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء . فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال !
من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما نزلت : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) . . الآية . . انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء ، فيحبس له ، حتى يأكله أو يفسد . فاشتد ذلك عليهم . فذكروا ذلك لرسول الله [ ص ] فأنزل الله : ( ويسألونك عن اليتامى . قل : إصلاح لهم خير ، وإن تخالطوهم فإخوانكم . والله يعلم المفسد من المصلح ، ولو شاء الله لأعنتكم . . )الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . .
وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر ، إلى ذلك الأفق الوضيء ؛ وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب . .
{ إِنّ الّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىَ ظُلْماً إِنّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْما } يقول : بغير حقّ ، { إنمَا يأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارا } يوم القيامة ، بأكلهم أموال اليتامى ظلما في الدنيا ، نارَ جهنم . { وسَيَصْلَوْنَ } بأكلهم { سَعِيرا } . كما :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْما إنّمَا يأْكُلُونَ في بُطُونهِمْ نارا } قال : إذا قام الرجل يأكل مال اليتيم ظلما ، يبعث يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه ومن أذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : حدثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة أُسْرِيَ به ، قال : «نَظَرْتُ فإذا أنا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَشافِرُ كمَشافِرِ الإبِلِ وقَدْ وُكّلِ بِهِمْ مِنْ يأْخُذُ بِمَشافِرِهِمْ ، ثُمّ يجْعَل فِي أفْواهِهِمْ صخْرا مِنْ نارٍ يخْرُجُ مِنْ أسافِلِهِمْ ، قُلْتُ : يا جِبرِيلُ مَنْ هَؤُلاءِ ؟ قال : هَؤُلاءِ الّذِينَ يأْكُلُونَ أمْوال اليَتامى ظُلْما إنّمَا يأْكَلُونَ في بُطُونِهمْ نارا » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّ الّذِينَ يأْكُلُون أمْوالَ اليَتَامى ظُلْما إنّمَا يأْكُلُون في بُطُونِهِمْ نارا وَسَيصْلَوْنَ سَعِيرا } قال : قال أبي : إن هذه لأهل الشرك حين كانوا لايورثونهم ويأكلون أموالهم .
وأما قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } فإنه مأخوذ من الصّلا ، والصّلا : الاصطلاء بالنار ، وذلك التسخن بها ، كما قال الفرزذق :
وَقاتَلَ كَلْبُ الحَيّ عَنْ نارِ أهْلِهِ ***لِيَرْبِضَ فِيها وَالصّلا مُتَكَنّفُ
*** وَصَالِيَانِ للِصّلاَ صُلِيّ ***
ثم استعمل ذلك في كل من باشر بيده أمرا من الأمور ، من حرب أو قتال أو خصومة أو غير ذلك ، كما قال الشاعر :
لَمْ أكُنْ مِنْ جُناتِها عَلِمَ اللّ ***هُ وإنّي بحَرّها اليَوْمَ صَالِي
فجعل ما باشر من شدّة الحرب وإجراء القتال ، بمنزلة مباشرة أذى النار وحرّها .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والعراق : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } بفتح الياء على التأويل الذي قلنا . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض الكوفيين : { وَسَيُصْلَوْنَ سَعِيرا } بضم الياء ، بمعنى يحرقون من قولهم : شاة مَصْلِيّة ، يعني : مشوية .
قال أبو جعفر : والفتح بذلك أولى من الضمّ لإجماع جميع القرّاء على فتح الياء في قوله : { لا يَصْلاها إلاّ الأشْقَى } ولدلالة قوله : { إلاّ مَنْ هُوَ صالِ الجَحِيمِ } على أن الفتح بها أولى من الضم . وأما السعير : فإنه شدة حرّ جهنم ، ومنه قيل : استعرت الحرب : إذا اشتدت ، وإنما هو مسعور ، ثم صرف إلى سعير ، قيل : كف خضيب ، ولحية دهين ، وإنما هي مخضوبة صرفت إلى فعيل .
فتأويل الكلام إذًا : وسيصلون نارا مسعرة : أي موقودة مشعلة ، شديدا حرّها .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { وَإذَا الجَحِيمُ سُعّرَتْ } فوصفها بأنها مسعورة ، ثم أخبر جلّ ثناؤه أن إكلة أموال اليتامى يصلونها ، وهي كذلك ، فالسعير إذًا في هذا الموضع صفة للجحيم على ما وصفنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.