قوله تعالى :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب } لا تخاصموهم ، { إلا بالتي هي أحسن } أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم ، { إلا الذين ظلموا منهم } أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن يسار ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : { كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " .
أخبرناا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر بن الزهري ، أنبأنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : " أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه " .
{ 46 } { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق وتحسينه ، ورد عن الباطل وتهجينه ، بأقرب طريق موصل لذلك ، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ، إلا من ظلم من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصده وحاله ، أنه لا إرادة له في الحق ، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة ، فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع .
{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد ، ولا تكن مناظرتكم إياهم [ على وجه ] يحصل به{[626]} القدح في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر ، فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحق ، ولا يرد الحق لأجل قوله ، ولو كان كافرا . وأيضا ، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به ، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب ، وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام .
فأما أن يقال : نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله ، فهذا ظلم وجور ، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب ، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه من التوراة ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن .
وأيضا ، فإن كل طريق تثبت به{[627]} نبوة أي : نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن مثلها أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره ، فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر .
وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون مستسلمون لأمره . ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ورسله ، وانقاد للّه واتبع رسله ، فهو السعيد ، ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي .
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون ) . .
إن دعوة الله التي حملها نوح - عليه السلام - والرسل بعده حتى وصلت إلى خاتم النبيين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] لهي دعوة واحدة من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو رد البشرية الضالة إلى ربها ، وهدايتها إلى طريقه ، وتربيتها بمنهاجه . وإن المؤمنين بكل رسالة لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمة واحدة ، تعبد إلها واحدا . وإن البشرية في جميع أجيالها لصنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله . وصنف المشاقين لله وهم حزب الشيطان ، بغض النظر عن تطاول الزمان وتباعد المكان . وكل جيل من أجيال المؤمنين هو حلقة في تلك السلسلة الطويلة الممتدة على مدار القرون .
هذه هي الحقيقة الضخمة العظيمة الرفيعة التي يقوم عليها الإسلام ؛ والتي تقررها هذه الآية من القرآن ؛ هذه الحقيقة التي ترفع العلاقات بين البشر عن أن تكون مجرد علاقة دم أو نسب ، أو جنس ، أو وطن . أو تبادل أو تجارة . ترفعها عن هذا كله لتصلها بالله ، ممثلة في عقيدة واحدة تذوب فيها الأجناس والألوان ؛ وتختفي فيها القوميات والأوطان ؛ ويتلاشى فيها الزمان والمكان . ولا تبقى إلا العروة الوثقى في الخالق الديان .
ومن ثم يكشف المسلمين عن مجادلة أهل الكتاب إلا بالحسنى ؛ لبيان حكمة مجيء الرسالة الجديدة ، والكشف عما بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، والإقناع بضرورة الأخذ بالصورة الأخيرة من صور دعوة الله ، الموافقة لما قبلها من الدعوات ، المكملة لها وفق حكمة الله وعلمه بحاجة البشر . . ( إلا الذين ظلموا منهم )فانحرفوا عن التوحيد الذي هو قاعدة العقيدة الباقية ؛ وأشركوا بالله وأخلوا بمنهجه في الحياة . فهؤلاء لا جدال معهم ولا محاسنة . وهؤلاء هم الذين حاربهم الإسلام عندما قامت له دولة في المدينة .
وإن بعضهم ليفتري على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه حاسن أهل الكتاب وهو في مكة مطارد من المشركين . فلما أن صارت له قوة في المدينة حاربهم ، مخالفا كل ما قاله فيهم وهو في مكة ! وهو افتراء ظاهر يشهد هذا النص المكي عليه . فمجادلة أهل الكتاب بالحسنى مقصورة على من لم يظلم منهم ، ولم ينحرف عن دين الله . وعن التوحيد الخالص الذي جاءت به جميع الرسالات .
وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، و إلهنا وإلهكم واحد ، ونحن له مسلمون . .
وإذن فلا حاجة إلى الشقاق والنزاع ، والجدل والنقاش . وكلهم يؤمنون بإله واحد ، والمسلمون يؤمنون بما أنزل إليهم وما أنزل إلى من قبلهم ، وهو في صميمه واحد ، والمنهج الإلهي متصل الحلقات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.