فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

{ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 ) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ( 47 ) }

{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } أي : بالخصلة التي هي أحسن للثواب ، وذلك على سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل ، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة ، وعن أبي عباس قال : بالتي هي أحسن ، بلا إله إلا الله .

{ إلا الذين ظلموا منهم } بأن أفرطوا في المجادلة ، ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم و التخشين في مجادلتهم ، وهكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وقيل : معنى الآية لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن ، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به ، من أخبار أهل الكتاب ، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا هم الباقون على كفرهم .

قال مجاهد : هذه الآية محكمة فيجوز مجادلتهم بها ، وقيل : هي منسوخة بآية القتال ، وبذلك قال قتادة ومقاتل ، قال النحاس وغيره : من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ، ولا طلب جزية ولا غير ذلك . وقول مجاهد حسن ، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة ، إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول ، واختار هذا القول ابن العربي .

قال سعيد بن جبير ومجاهد : المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين ، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجادلهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية . وقيل : إلا الذين اثبتوا الولد والشريك فيدخل فيه أهل الشرك وعبدة الأوثان ، والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين وعلى جواز تعلم علم الكفار الذي به تتحقق المجادلة الحقة بالتي هي أحسن ، قال السمين : الاستثناء متصل وفيه معنيان : أحدهما : إلا الظلمة ، فلا تجادلوهم البتة بل جادلوهم بالسيف والثاني : جادلوهم بغير التي هي أحسن أي : اغلظوا لهم كما اغلظوا عليكم وقرأ ابن عباس ( إلا ) حرف تنبيه أي : فجادلوهم ،

{ وقولوا } هذا تبيين لمجادلتهم بالتي هي أحسن : { آمنا بالذي أنزل إلينا } من القرآن { وأنزل إليكم } من التوراة والإنجيل ، أي بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية ، والبعثة المحمدية ، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه .

أخرج البخاري والنسائي وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وإليكم " .

وأخرج البيهقي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق ، والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " .

وعن ابن مسعود قال : لا تسألوا أهل الكتاب ، وذكر نحو حديث جابر ، ثم قال : فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه وهذه الآية من جنس المجادلة بالأحسن .

{ وإلهنا وإلهكم واحد } لا شريك له ، ولا ند ، ولا ضد { ونحن مسلمون } أي : ونحن معاشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم مطيعون له خاصة لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله ، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا أربابا من دون الله ، ويحتمل أن يراد ونحن جميعا منقادون له ، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب ، وطاعتهم أبلغ من طاعتهم .