محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡۖ وَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡنَا وَأُنزِلَ إِلَيۡكُمۡ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمۡ وَٰحِدٞ وَنَحۡنُ لَهُۥ مُسۡلِمُونَ} (46)

ولما بين تعالى طريقة إرشاد المشركين ، ونفع من انتفع ، وحصول اليأس ممن امتنع ، بين طريقة إرشاد أهل الكتاب بقوله : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي بالخصلة التي هي أحسن . وهي اللين والأناة { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أي بالاعتداء ، بأن أفحشوا في المقال وأقذعوا في الجدال ، فلا حرج في مقابلتهم بالعنف ، لتنكبهم عن جادة اللطف . وهذا كما قال تعالى {[6048]} : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } وهذه الآية أصل في آداب المناظرة والجدل { وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مطيعون له خاصة . وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله .

قال ابن كثير : يعني إذا أخبروا بما لا يعلم صدقه ولا كذبه ، فهذا لا يقدم على تكذيبه ، لأنه قد يكون حقا . ولا على تصديقه ، فلعله أن يكون باطلا . ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط . وهو أن يكون منزلا ، ولا مبدلا مؤولا . وروى البخاري {[6049]} عن أبي هريرة قال : ( كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) . وهذا الحديث تفرد به البخاري .

وروى الإمام أحمد {[6050]} عن أبي نملة الأنصاري مرفوعا : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم . وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله . فإن كان حقا لم تكذبوهم ، وإن كان باطلا لم تصدقوهم ) . ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان . لأنه قد دخله تحريف وتبديل وتغيير وتأويل . وما أقل الصدق فيه . ثم ما أقل فائدة كثير منه ، لو كان صحيحا .

روى البخاري {[6051]} عن ابن عباس قال : ( كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث . تقرؤونه محضا لم يشب . وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا . ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ؟ لا ، والله ! ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم ) .

وقال البخاري {[6052]} : وقال أبو اليمان : أخبرنا شعيب عن الزهري . أخبرني حميد بن عبد الرحمن ( أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة . وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب . وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه بالكذب ) . معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد . لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن . وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة . لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة . ومع ذلك ، وقرب العهد ، وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة ، لا يعلمها إلا الله عز وجل ، ومن منحه الله علما بذلك . كل بحسبه . ولله الحمد والمنة . انتهى .


[6048]:(4 النساء 148).
[6049]:أخرجه في: 96 – كتاب الاعتصام، 25 – باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، حديث 1966.
[6050]:أخرجه بالصفحة رقم 136 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[6051]:أخرجه في: 52 – كتاب الشهادات، 29 – باب لا يسأل أهل الشرك عن الشهادة وغيرها، حديث رقم 1300.
[6052]:أخرجه في: 96 – كتاب الاعتصام، 25 باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، حديث 2595.