قوله تعالى :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب } لا تخاصموهم ، { إلا بالتي هي أحسن } أي : بالقرآن والدعاء إلى الله بآياته والتنبيه على حججه ، وأراد من قبل الجزية منهم ، { إلا الذين ظلموا منهم } أي : أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ، ومجاز الآية : إلا الذين ظلموكم ، لأن جميعهم ظالم بالكفر . وقال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب ومن لا عهد له . قال قتادة ومقاتل : صارت منسوخة بقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } يريد إذا أخبركم واحد منهم من قبل الجزية بشيء مما في كتبهم فلا تجادلوهم عليه ، ولا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون }
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن يسار ، أنبأنا عثمان بن عمر ، أنبأنا علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : { كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم " .
أخبرناا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنبأنا عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز ، أنبأنا محمد بن زكريا العذافري ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر بن الزهري ، أنبأنا ابن أبي نملة الأنصاري أن أباه أبا نملة الأنصاري أخبره : " أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رجل من اليهود ومر بجنازة ، فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أعلم ، فقال اليهودي : إنها تتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوه وإن كان حقاً لم تكذبوه " .
{ 46 } { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب ، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل ، أو بغير قاعدة مرضية ، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن ، بحسن خلق ولطف ولين كلام ، ودعوة إلى الحق وتحسينه ، ورد عن الباطل وتهجينه ، بأقرب طريق موصل لذلك ، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو ، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق ، إلا من ظلم من أهل الكتاب ، بأن ظهر من قصده وحاله ، أنه لا إرادة له في الحق ، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة ، فهذا لا فائدة في جداله ، لأن المقصود منها ضائع .
{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي : ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم ، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم ، وعلى أن الإله واحد ، ولا تكن مناظرتكم إياهم [ على وجه ] يحصل به{[626]} القدح في شيء من الكتب الإلهية ، أو بأحد من الرسل ، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم ، يقدح بجميع ما معهم ، من حق وباطل ، فهذا ظلم ، وخروج عن الواجب وآداب النظر ، فإن الواجب ، أن يرد ما مع الخصم من الباطل ، ويقبل ما معه من الحق ، ولا يرد الحق لأجل قوله ، ولو كان كافرا . وأيضا ، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب ، على هذا الطريق ، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن ، وبالرسول الذي جاء به ، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب ، وتقررت عند المتناظرين ، وثبتت حقائقها عندهما ، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها ، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها ، والرسل كلهم ، وهذا من خصائص الإسلام .
فأما أن يقال : نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني ، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله ، فهذا ظلم وجور ، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب ، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها ، المصدق لما بين يديه من التوراة ، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن .
وأيضا ، فإن كل طريق تثبت به{[627]} نبوة أي : نبي كان ، فإن مثلها وأعظم منها ، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فإن مثلها أو أعظم منها ، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره ، فإذا ثبت بطلانها في غيره ، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر .
وقوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون مستسلمون لأمره . ومن آمن به ، واتخذه إلها ، وآمن بجميع كتبه ورسله ، وانقاد للّه واتبع رسله ، فهو السعيد ، ومن انحرف عن هذا الطريق ، فهو الشقي .
يقول تعالى ذكره : وَلا تُجادِلُوا أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى ، وهم أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ يقول : إلاّ بالجميل من القول ، وهو الدعاء إلى الله بآياته ، والتنبيه على حُججه .
وقوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم : معناه : إلاّ الذين أبوا أن يقرّوا لكم بإعطاء الجزية ، ونصبوا دون ذلك لكم حربا ، فإنهم ظلمة ، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا يزيد ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، في قوله : وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا منهمْ قال : من قاتل ولم يُعط الجزية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ، بنحوه . إلاّ أنه قال : من قاتلك ولم يعطك الجزية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : إن قالوا شرّا ، فقولوا خيرا ، إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ فانتصروا منهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : قالوا مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مَغْلولة ، أو الله فقير ، أو آذَوْا محمدا صلى الله عليه وسلم ، قال : هم أهل الكتاب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ ، إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : أهل الحرب ، مَنْ لا عهد له ، جادِلْه بالسيف .
وقال آخرون : معنى ذلك : وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ الذين قد آمنوا به ، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم إلاّ بالتي هِيَ أحْسَنُ ، إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ . فأقاموا على كفرهم ، وقالوا : هذه الاَية مُحْكَمة ، وليست بمنسوخة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ قال : ليست بمنسوخة ، لا ينبغي أن تجادل من آمن منهم ، لعلهم يحسنون شيئا في كتاب الله ، لا تعلمه أنت ، فلا تجادله ، ولا ينبغي أن تجادل إلاّ الذين ظلموا ، المقيمَ منهم على دينه . فقال : هو الذي يُجادَلُ ، ويُقال له بالسيف . قال : وهؤلاء يهود . قال : ولم يكن بدار الهجرة من النصارى أحد ، إنما كانوا يهودا هم الذي كلّموا وحالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغدرت النضير يوم أُحُد ، وغدرت قُريظة يوم الأحزاب .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية قبل أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقتال ، وقالوا : هي منسوخة نسخها قوله : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا باليَوْمِ الاَخِرِ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلاّ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ ثم نسخ بعد ذلك ، فأمر بقتالهم في سورة براءة ، ولا مجادلة أشدّ من السيف أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يقرّوا بالخَراج .
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : عنى بقوله إلاّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُمْ : إلاّ الذين امتنعوا من أداء الجزية ، ونصبوا دونها الحرب .
فإن قال قائل : أو غير ظالم من أهل الكتاب ، إلاّ من لم يؤدّ الجزية ؟ قيل : إن جميعهم وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ظَلَمة ، فإنه لم يعن بقوله إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ظُلْمَ أنفسهم . وإنما عنى به : إلاّ الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أولئك جادلوهم بالقتال .
وإنما قلنا : ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ، لأن الله تعالى ذكره أذِن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب بغير الذي هو أحسن ، بقوله إلاّ الّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُمْ فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم ، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلاّ بالتي هي أحسن ، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم ، وأنهم غير المؤمن ، لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلاّ في غير الحقّ ، لأنه إذا جاء بغير الحقّ ، فقد صار في معنى الظلمة في الذي خالف فيه الحقّ . فإذ كان ذلك كذلك ، تبين أن لا معنى لقول من قال : عنى بقوله وَلا تُجادِلُوا أهلَ الكِتابِ أهل الإيمان منهم ، وكذلك لا معنى لقول من قال : نزلت هذه الاَية قبل الأمر بالقتال ، وزعم أنها منسوخة ، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر ، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل .
وقد بيّنا في غير موضع من كتابنا ، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلاّ بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل .
وقوله : وَقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ ، وَإلَهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ ، ونَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله ، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن : إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم ، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين ، وأن يكونوا فيه كاذبين ، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك فقولوا لهم آمّنّا بِالّذِي أُنْزِلَ إلَينا وأنْزِلَ إلَيْكُمْ مما في التوراة والإنجيل وَإلَهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ يقول : ومعبودنا ومعبودكم واحد ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يقول : ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : أخبرنا عليّ ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تُصَدّقُوا أهْلَ الكِتابِ وَلا تُكَذّبُوهُمْ ، وَقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ ، وَإلهُنا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ ، ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عطاء بن يسار ، قال : كان ناس من اليهود يحدثون ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «لا تُصَدّقُوهُمْ وَلا تُكَذّبُوهُمْ ، وَقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ » .
قال : ثنا أبو عامر ، قال : حدثنا سفيان ، عن سليمان ، عن عمارة بن عمير ، عن حريث بن ظهير ، عن عبد الله ، قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلاّ وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني به محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قال : قالوا مع الله إله ، أو له ولد ، أو له شريك ، أو يد الله مغلولة ، أو الله فقير ، أو آذوا محمدا ، وقُولُوا آمَنّا بالّذِي أُنْزِل إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكُمْ لمن لم يقل هذا من أهل الكتاب .
عطف على جملة { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } [ العنكبوت : 45 ] الآية ، باعتبار ما تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعْقِلُها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] كما تقدم آنفاً . وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأن مجادلة أهل الكتاب لا تَعرِض للنبيء صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة ، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخِر هذه السورة على وشْك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلةً للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت ، وقوله { وما يعقِلُها إلى العالمون } هَيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب . فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } [ العنكبوت : 47 ] الآيات .
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة .
والمجادلة : مفاعلة من الجَدل ، وهو إقامة الدليل على رأي اختلَف فيه صاحبه مع غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولا تجادل عن الذين يَخْتانون أنفسهم } في سورة النساء ( 107 ) . وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها . والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال .
و{ أهل الكتاب } : اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن . والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولَها . ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران .
و { بالتي هي أحسن } مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى ، تقديره : لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن . و { أحسن } اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة ، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين ، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة . ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن ، أي إلا بالمجادلة الحُسنى كقوله تعالى { وجادِلْهم بالتي هي أحسن } في آخر سورة النحل ( 125 ) . فالله جعل الخيار للنبيء في مجادلة المشركين بين أن يُجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل ، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله : { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلُظ عليهم } [ التوبة : 73 ] ، فإن الإغلاظ شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلاّ إغلاظاً غير الجهاد .
ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذراً من تنفيرهم ، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصَلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعيَّن أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعاً لهم .
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب ، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين ، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله : { إلا الذين ظلموا منهم } . و { الذين ظلموا منهم } هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسداً وبغضاً على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم ، وجعلوا يكيدون للنبيء صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء .
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون : إن محمداً رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم " أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : أشهد أنك رسول الأميين " فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سَلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام .
وعطف { وقولوا ءامنا } إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة { بالتي هي أحسن } . وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتجّ على ما عدا ذلك ، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيّز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عمّا يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله : { يا أهل الكتاب لِمَ تحاجّون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلاّ من بَعْده } إلى قوله : { وما كان مِنَ المُشْركين } آل عمران : ( 65 67 ) . ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيّز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما شملته المجادلة لكان ذلك مقتضياً فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال .
ومعنى { بالذي أُنْزِلَ إلَيْنا } القرآن . والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتاباً على غير أنبيائهم ، ولذلك عقب بقوله : { وأنزل إليكم } . وقوله : { وأنزل إليكم } عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : والذي أنزل إليكم ، أي الكتاب وهو « التوراة » بقرينة قوله { إليكم } . والمعنى : إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى : { قُلْ يأهل الكِتَاب هل تَنْقِمون مِنَّا إلاّ أنْ ءامنّا بالله وما أُنْزِل إليْنَا ومَا أُنْزِلَ مِن قَبْل } [ المائدة : 59 ] ، وكذلك قوله : { وإلهَنا وإلهكُم واحِد } تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد . فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان .
وقوله : { ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون } مراد به كلاَ الفريقين ، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين . فيشمل المسلمين وأهلَ الكتاب فيكون المراد بوصف { مسلمون } أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله ، أي عدم الإشراك به ، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره . وتقديم المجرور على عامله في قوله : { لَهُ مُسْلِمُون } لإفادة الاختصاص تعريضاً بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية .