قوله تعالى : { ومن أظلم ممن افترى } ، أي : اختلق .
قوله تعالى : { على الله كذباً } ، فزعم أن الله تعالى بعثه نبياً .
قوله تعالى : { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } ، قال قتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب ، وكان يسجع ويتكهن ، فادعى النبوة ، وزعم أن الله أوحى إليه ، وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : أتشهدان أن مسيلمة نبي ؟ قالا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما .
أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بينما أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض ، فوضع في يدي سواران من ذهب ، فكبرا علي ، وأهماني ، فأوحي إلى أن انفخهما ، فنفختهما فذهب . فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما ، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة ) .
أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي ، وبصاحب اليمامة مسيلمة الكذاب .
قوله تعالى : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، قيل : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وكان قد أسلم ، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا أملى عليه : سميعاً بصيراً ، كتب عليماً حكيماً ، وإذا قال : عليماً حكيماً ، كتب : غفوراً رحيماً ، فلما نزلت : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون :12 ] أملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان ، فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتبها فهكذا نزلت ، فشك عبد الله ، وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، فارتد عن الإسلام ، ولحق بالمشركين ، ثم رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة ، إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران . وقال ابن عباس : قوله : { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، يريد المستهزئين ، وهو جواب لقولهم : { لو نشاء لقلنا مثل هذا } .
قوله تعالى : { ولو ترى } ، يا محمد .
قوله تعالى : { إذ الظالمون في غمرات الموت } ، سكراته ، وهي جمع غمرة ، وغمرة كل شيء معظمه ، وأصلها : الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ، ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره .
قوله تعالى : { والملائكة باسطوا أيديهم } ، بالعذاب والضرب ، يضربون وجوههم وأدبارهم ، وقيل بقبض الأرواح .
قوله تعالى : { أخرجوا } ، أي : يقولون أخرجوا .
قوله تعالى : { أنفسكم } ، أي : أرواحكم كرهاً ، لأن نفس المؤمن تنشط للقاء ربه ، والجواب محذوف ، يعني : لو تراهم في هذه الحال لرأيت عجباً .
قوله تعالى : { اليوم تجزون عذاب الهون } ، أي : الهوان .
قوله تعالى : { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } ، تتعظمون عن الإيمان بالقرآن ولا تصدقونه .
{ 93 - 94 } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ * وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ }
يقول تعالى : لا أحد أعظم ظلما ، ولا أكبر جرما ، ممن كذب [ على ] الله . بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه ، وإنما كان هذا أظلم الخلق ، لأن فيه من الكذب ، وتغيير الأديان أصولها ، وفروعها ، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد .
ويدخل في ذلك ، ادعاء النبوة ، وأن الله يوحي إليه ، وهو كاذب في ذلك ، فإنه - مع كذبه على الله ، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه ، ويجاهدهم على ذلك ، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم .
ويدخل في هذه الآية ، كل من ادعى النبوة ، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار ، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف .
{ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ } أي : ومن أظلم ممن زعم . أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه ، ويشرع من الشرائع ، كما شرعه الله . ويدخل في هذا ، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن ، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله . وأي : ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات ، الناقص من كل وجه ، مشاركةَ القوي الغني ، الذي له الكمال المطلق ، من جميع الوجوه ، في ذاته وأسمائه وصفاته ؟ "
ولما ذم الظالمين ، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار ، ويوم القيامة فقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ْ } أي : شدائده وأهواله الفظيعة ، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا ، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها .
{ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ْ } إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب ، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها ، وتعصيها للخروج من الأبدان : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ْ } أي : العذاب الشديد ، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل ، فإن هذا العذاب { بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ْ } من كذبكم عليه ، وردكم للحق ، الذي جاءت به الرسل . { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ْ } أي : تَرَفَّعون عن الانقياد لها ، والاستسلام لأحكامها . وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه ، فإن هذا الخطاب ، والعذاب الموجه إليهم ، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده .
وفيه دليل ، على أن الروح جسم ، يدخل ويخرج ، ويخاطب ، ويساكن الجسد ، ويفارقه ، فهذه حالهم في البرزخ .
وأما يوم القيامة ، فإنهم إذا وردوها ، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال ، ولا أولاد ولا جنود ، ولا أنصار ، كما خلقهم الله أول مرة ، عارين من كل شيء .
فإن الأشياء ، إنما تتمول وتحصل بعد ذلك ، بأسبابها ، التي هي أسبابها ، وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور ، التي كانت مع العبد في الدنيا ، سوى العمل الصالح والعمل السيء ، الذي هو مادة الدار الآخرة ، الذي تنشأ عنه ، ويكون حسنها وقبحها ، وسرورها وغمومها ، وعذابها ونعيمها ، بحسب الأعمال . فهي التي تنفع أو تضر ، وتسوء أو تسر ، وما سواها من الأهل والولد ، والمال والأنصار ، فعواري خارجية ، وأوصاف زائلة ، وأحوال حائلة ، ولهذا قال تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } . .
يعني جلّ ذكره بقوله : وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا : ومن أخطأُ قولاً وأجهلُ فعلاً ممن افترى على الله كذبا ، يعني : ممن اختلق على الله كذبا ، فادّعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا ، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب . وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح والحنفي مُسَيْلِمة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أحدهما النبوّة ودعوى الاَخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونفي منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قوله : وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال : نزلت في مسيلمة أخي بني عديّ بن حنيفة فيما كان يسجّع ويتكهن به . وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ الله نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح ، أخي بني عامر بن لؤي ، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان فيما يُملِي «عزيز حكيم » ، فيكتب «غفور رحيم » ، فيغيره ، ثم يقرأ عليه كذا وكذا لما حوّل ، فيقول : «نَعَمْ سواء » فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم : لقد كان ينزل عليه «عزيز حكيم » ، فأحوّله ثم أقول لما أكتب ، فيقول نعم سواء ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة ، إذ نزل النبيّ صلى الله عليه وسلم بمَرّ .
وقال بعضهم : بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ . . . إلى قوله : تُجْزَوْنَ عذَابَ الهُونِ قال : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم ، وكان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه «سميعا عليما » ، كتب هو : «عليما حكيما » وإذا قال : «عليما حكيما » كتب : «سميعا عليما » . فشكّ وكفر ، وقال : إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحيَ إليّ ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله ، قال محمد : «سميعا عليما » ، فقلت أنا : «عليما حكيما » . فلحق بالمشركين ، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرميّ أو لبني عبد الدار ، فأخذوهم فعذّبوا حتى كفروا . وجُدع أذن عمار يومئذ ، فانطلق عمار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما لقي والذي أعطاهم من الكفر ، فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولاه ، فأنزل الله في شأن ابن أبي سَرح وعمار وأصحابه : مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا فالذي أُكره عمار وأصحابه ، والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح .
وقال آخرون : بل القائل : أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ مسيلمة الكذّاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّهُ ذكر لنا أن هذه الاَية نزلت في مسيلمة . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «رأيْتُ فِيما يَرَى النّائمُ كأنّ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ ، فكَبُرَا عَليّ وأهمّانِي ، فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما ، فنَفَخْتُهُما فَطارَا ، فَأوّلْتُهُما فِي مَنامي الكَذّابَيْنِ اللّذَيْنِ أنا بَيْنَهُما : كَذّابُ اليَمامَةِ مُسَيْلِمَةُ ، وكذّابُ صَنْعاءَ العَنْسِيّ » وكان يقال له الأسود .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أُوحِيَ إليّ وَلم يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ قال : نزلت في مسيلمة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، وزاد فيه : وأخبرني الزهري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «بَيْنا أنا نائمٌ رأيْتُ فِي يَدِي سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ ، فَكَبُرَ ذلكَ عَليّ ، فَأُوحِيَ إليّ أنِ انْفُخْهُما ، فَنَفَخْتُهُما فَطارَا ، فَأوّلْت ذلكَ كَذّابَ اليَمامَةِ ، وكَذّابَ صَنْعاءَ العَنسِيّ » .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، أن يقال : إن الله قال : وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على الله كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ ولا تَمَانُعَ بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال : إني قد قلت مثل ما قال محمد ، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين . فكان لا شكّ بذلك من قيله مفتريا كذبا . وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذّابين ادّعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين ، وقال كلّ واحد منهما : إن الله أوحي إليه وهو كاذب في قيله .
فإذا كان ذلك كذلك فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقاً على الله كذباً وقائلاً في ذلك الزمان وفي غيره أوحى الله إليه ، وهو في قيله كاذب لم يوح الله إليه شيئاً فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عُني به جميع المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم فلم يغيروه فعيرهم الله بذلك وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون ولنبوته جاحدون ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون ، فقال لهم جل ثناؤه : ومن أظلم ممن ادعى على النبوّة كاذباً وقال { أوحيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ } ومع ذلك يقول { ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } فينقض قوله بقوله ويكذب بالذي تحققه وينفى ما يثبته وذلك إذا تدبره العاقل إلا ريب علم أن فاعله من عقله عديم وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله { وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّهُ } ما .
حدثني محمد ابن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله : { وَمَنْ قالَ سأُنْزِلَ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّهُ } قال زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر .
فكان ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوله يوجه معنى قول قائل : سأنزل مثل ما أنزل الله إلى سأنزل مثل ما قال الله من الشعر . وكذلك تأوّله السديّ وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى .
القول في تأويل قوله { وَلَوْ َتَرى إذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهَة والأنداد ، والقائلين ما أنزل الله على بشر من شيء ، والمفترين على الله كذباً ، الزاعمين أن الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء ، والقائلين سأنزل مثل ما أنزل الله فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت ، ونزل بهم أمر الله ، وحان فناء آجالهم ، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم ، كما قال جل ثناؤه : فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهم ذلكَ بأنَّهُمْ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللّهَ وَكّرِهُوا رِضْوَانَهُ يقولون لهم : أخْرِجُوا أنْفسَكُمْ والغمرات : جمع غمرة ، وغمرة كل شيء : كثرته ومعظمه ، وأصله : الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه قول الشاعر :
وهل ينجى من الغمرات إلا *** بَرَاكاءُ القتال أو الفِرَارُ
ورُوِي عن ابن عباس في ذلك ، ما :
حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى حجاج عن ابن جريج قال قال ابن عباس قوله { وَلَوْ تَرَى إذ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ } قال : سكرات الموت .
حدُثت عن الحسين بن الفرج ، قال سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله { فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ } يعني سكرات الموت .
وأما بسط الملائكة أيديهم فإنه مدّها . ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْ تْرىَ إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ } قال : هذا عند الموت .
والبسْط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال ثني عمي : قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ } يقول : الملائكة باسطوا أيديهم ، يضربون وجوههم وأدبارهم . والظالمون في غمرات الموت ، وملك الموت يتوفاهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط : عن السدّي : { وَالمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ } يضربونهم .
وقال آخرون بل بسطها أيديها بالعذاب . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : { وَالمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ } قال : بالعذاب .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح { وَالمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ } بالعذاب .
وكان بعض نحوتي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى : باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم .
فإن قال قائل ما وجه قوله { أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ } ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها ربّ العالمين ؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار ، وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم فإن كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم ؟ قيل : إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبتَ ، وإنما ذلك أمر من الله على ألسن رسله الذين يقبضون أرواح هؤلاء القوم من أجسامهم ، بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه وتسليمها إلى رسله الذين يتوفونها .
القول في تأويل قوله { اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ على اللّهِ غيرَ الحَقّ وكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها ، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها : أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته : ، فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله ، وقيلكم عليه الباطل ، وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً ، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً ، واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته . { عَذَابَ الهُونِ } وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم ، حتى يعرفوا صغَار أنفسهم وذلتها . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثنا أحمد بن المفضل ، قال : ثنا أسباط ، عن السدّي : أما { عَذَابَ الهُونِ } فالذي يهينهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ } قال : عذاب الهُون في الآخرة بما كنتم تعملون .
والعرب إذا أرادت بالهُون معنى الهوان ضمت الهاء ، وإذا أرادت به الرفق والدَّعة وخفة المَئونة فتحت الهاء ، فقالوا : هو قليل هَوْن المئونة ومنه قول الله : الَّذِينَ يَمْشُونَ على الأرْضِ هَوْناً يعني : بالرفق والسكينة والوقار ومنه قول المثنى بن جندل الطُّهَوي .
وَنَقْض أيَّامٍ نَقَضْنَ أسْرَهُ*** هَوْناً وألْقَى كُلُّ شَيْخٍ فَخْرَهُ
هَوْنَكُما لا يَرُدُّ الدَّهْرَ ما فاتَا *** لا تَهْلِكا أسَفاً فِي إثْرِ مَنْ ماتَا
يريد : رَوْداً . وقد حكي فتح الهاء في ذلك بمعنى الهوان ، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَيْن :
تُهِينُ النُّفُوسِ وَهُوْنُ النُّفُو *** سِ عِنْدَ الكَرِيهَةِ أعْلَى لَهَا
والمعروف من كلامهم ضمّ الهاء منه إذا كان بمعنى الهوان والذلّ ، كما قال ذو الإصبع العدواني :
اذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أُمِّي بِرَاعِيَةٍ *** تَرْعى المخاضَ ولا أُغْضِي على الهُونِ
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }
لمّا تقضّى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي ، النّاشيءُ عن مقالهم الباطل ، إذ قالوا { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ، وعقّب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرّسل وإنزال الوحي على بشر ، وهو إثبات أنّ هذا الكتاب منزّل من الله ، عُقّب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشّرائع الضّالة في أحوالهم الّتي شرعها لهم عَمْرو بن لُحَيّ من عبادة الأصنام ، وزعمهم أنّهم شفعاءُ لهم عند الله ، وما يستتبع ذلك من البحيرة ، والسّائبة ، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وغير ذلك . فهم ينفون الرّسالة تارة في حين أنّهم يزعمون أنّ الله أمرهم بأشياء فكيف بلَغهم ما أمرهم الله به في زعمهم ، وهم قد قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] . فلزمهم أنّهم قد كذَبوا على الله فيما زعموا أنّ الله أمرهم به لأنّهم عطّلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرّسالة فجاءوا بأعجب مقالة .
وذكر من استخفّوا بالقرآن فقال بعضهم : أنا أوحيَ إليّ ، وقال بعضهم : أنا أقول مثلَ قول القرآن ، فيكون المراد بقوله : { ومن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً } تسفيه عقائد أهل الشّرك والضّلالة منهم على اختلافها واضطرابها . ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النّبيء صلى الله عليه وسلم عمّا رموه به من الكذب على الله حين قالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] لأنّ الّذي يعلم أنّه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادّعاءِ الوحي باطلاً لا يُقدم على ذلك ، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان « وسألتُك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكَرْتَ أنّ لا ، فقد أعرِفُ أنّه لم يكن ليَذَر الكذب على النّاس ويكذب على الله » .
والاستفهام إنكاري فهو في معنى النّفي ، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصّلات . ومساقه هنا مساق التّعريض بأنّهم الكاذبون إبطالاً لتكذيبهم إنزال الكتاب ، وهو تكذيب دلّ عليه مفهوم قوله : { والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } [ الأنعام : 92 ] لاقتضائه أنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذّبون به ؛ ومنهم الذّي قال : أوحي إليّ ؛ ومنهم الّذي قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ؛ ومنهم من افترى على الله كذباً فيما زعموا أنّ الله أمرهم بخصال جاهليتهم . ومثل هذا التّعريض قوله تعالى في سورة [ العقود : 60 ] { قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه } الآية عقب قوله : { يأيّها الّذين آمنُوا لاَ تَتَّخذُوا الَّذين اتَّخذوا دِينكم هُزؤاً ولعباً من الَّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء } [ المائدة : 57 ] الآية .
وتقدّم القول في { ومَنْ أظلم } عند قوله تعالى : { ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } في سورة البقرة : 114 ] .
وافتراء : الاختلاق ، وتقدّم في قوله تعالى : { ولكن الّذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة [ العقود : 103 ] .
و{ مَن } موصولة مراد به الجنس ، أي كلّ من افترى أو قال ، وليس المراد فرداً معيّناً ، فالّذين افتروا على الله كذباً هم المشركون لأنهم حلّلوا وحرّموا بهواهم وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك ، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذباً .
و{ أوْ قال أوحي إليّ } عطف على صلة { مَن } ، أي كلّ من ادّعى النّبوءة كذباً ، ولم يزل الرّسل يحذّرون النّاس من الّذين يدّعون النّبوءة كذباً كما قدّمته . روي أنّ المقصود بهذا مسيلمة متنبّىء أهل اليمامة ، قاله ابن عبّاس وقتادة وعكرمة . وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادّعى النّبوءة قبل هجرة النّبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنّ السّورة مكّية . والصّواب أنّ مسيلمة لم يدع النّبوءة إلاّ بعد أن وفد على النّبيء صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعاً في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بعده فلمّا رجع خائباً ادّعى النّبوءة في قومه .
وفي « تفسير » ابن عطيّة أنّ المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسودُ العَنْسِي المتنبّىء بصنعاء . وهذا لم يقله غير ابن عطيّة . وإنّما ذكرَ الطّبري الأسود تنظيراً مع مسيلمة فإنّ الأسود العنْسي ما ادّعى النّبوءة إلاّ في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوجه أنّ المقصود العموم ولا يضرّه انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت مَّا وانطباق الآية عليه .
وأمّا { من قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، فقال الواحدي في « أسباب النّزول » ، عن ابن عبّاس وعكرمة : أنّها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكّة ، وكان يكتب الوحي للنّبيء صلى الله عليه وسلم ثمّ ارتدّ وقال : أنا أقول مثل ما أنزل الله ، استهزاء ، وهذا أيضاً لا ينثلج له الصّدر لأنّ عبد الله بن أبي سرح ارتدّ بعد الهجرة ولحق بمكّة وهذه السّورة مكّية . وذكر القرطبي عن عكرمة ، وابنُ عطيّة عن الزّهراوي والمهدوي أنّها : نزلت في النضر بن الحارث كان يقول : أنا أعارض القرآن . وحفظوا له أقوالاً ، وذلك على سبيل الاستهزاء . وقد رووا أنّ أحداً من المشركين قال : إنّما هو قول شاعر وإنّي سأنزل مثله ؛ وكان هذا قد تكرّر من المشركين كما أشار إليه القرآن ، فالوجه أنّ المراد بالموصول العموم ليشمل كلّ من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل .
وقولهم : { مثلَ ما أنزل الله } إمّا أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا : { يأيّها الّذي نُزّلَ عليه الذّكْر إنّك لمجنون } [ الحجر : 6 ] ، وإمّا أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى ، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام ، فعبَّر الله عنه بقوله : { ما أنزل الله } كقوله : { وقولِهم إنَّا قتلْنا المسيحَ عيسى ابن مريم رسولَ الله } [ النساء : 157 ] .
{ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِى غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } .
عُطِفت جملة : { ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت } على جملة : { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً } لأنّ هذه وعيد بعقاب لأولئك الظّالمين المفترين على الله والقائلين « أوحي إلينا » والقائلين { سأنزل مثل ما أنزل الله } .
ف { الظّالمون } في قوله : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } يشمل أولئك ويشمل جميع الظّالمين المشركين ، ولذلك فالتّعريف في { الظّالمون } تعريفُ الجنس المفيد للاستغراق . والخطاب في { تَرى } للرّسول صلى الله عليه وسلم أو كلّ من تتأتَّى منه الرّؤية فلا يختصّ به مخاطب . ثمّ الرّؤية المفروضة يجوز أن يُراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة ، وأن تكون عِلميّة إذا كانت الحالة المحكيّة من أحوال النّزع وقبض أرواحهم عند الموت .
ومفعول { ترى } محذوف دلّ عليه الظّرف المضاف . والتّقدير : ولو ترى الظّالمين إذ هم في غمرات الموت ، أي وقْتهم في غمرات الموت ، ويجوز جعل ( إذْ ) اسماً مجرّداً عن الظرفيّة فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى : { واذكروا إذْ كنتم قليلاً } [ الأعراف : 86 ] فيكون التّقدير ، ولو ترى زمَنَ الظّالمون في غمرات الموت . ويتعيّن على هذا الاعتبار جعل الرّؤية عِلميّة لأنّ الزّمن لا يُرى .
والمقصود من هذا الشّرط تهويل هذا الحال ، ولذلك حذف جواب ( لو ) كما هو الشّأن في مقام التّهويل . ونظائرُه كثيرة في القرآن . والتّقدير : لرأيت أمراً عظيماً .
والغمرة بفتح الغين ما يغمُر ، أي يَغُمّ من الماء فلا يترك للمغمور مخلصاً . وشاعت استعارتها للشدّة تشبيهاً بالشدّة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السّيل حتّى صارت الغمرة حقيقة عرفيّة في الشدّة الشّديدة .
وجَمْع الغمرات يجوز أن يكون لتعدّد الغمرات بعدد الظّالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها . ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنّه أصناف من الشّدائد هي لتعدّد أشكالها وأحوالها لا يعبّر عنها باسم مفرد . فيجوز أن يكون هذا وعيداً بعذاب يلقونه في الدّنيا في وقت النّزع . ولمّا كان للموت سكرات جعلت غمرةُ الموت غمَرات .
و ( في ) للظرفيّة المجازيّة للدّلالة على شدّة ملابسة الغمرات لهم حتّى كأنّها ظرف يحويهم ويحيط بهم . فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراتُه هي آلام النّزع .
وتكون جملة : { أخرجوا أنفسكم } حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم . فيكون إطلاقُ الغمرات مجازاً مفرداً ويكون الموت حقيقة . ومعنى بسط اليد تمثيلاً للشدّة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيديَ . والأنفس بمعنى الأرْواح ، أي أخرجوا أرْواحكم من أجسادكم ، أي هاتوا أرواحكم ، والأمر للإهانة والإرْهاق إغلاظاً في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين ، وفيه إشارة إلى أنّهم يجْزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النّزع جزاءاً في الدّنيا على شركهم ، وقد كان المشركون في شكّ من البعث فتُوعِّدُوا بما لا شكّ فيه ، وهو حال قبض الأرواح بأنّ الله يسلّط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدّة وعنف وتذيقهم عذاباً في ذلك .
وذلك الوعيد يقع في نفوسهم موقعاً عظيماً لأنّهم كانوا يخافون شدائد النّزع وهو كقوله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفّى الَّذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ الأنفال : 50 ] الآية ، وقول { أخرجوا أنفسكم } على هذا صادر من الملائكة .
ويجوز أن يكون هذا وعيداً بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد { ولقد جئتمونا فُرادى } [ الأنعام : 94 ] ؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشّدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النّزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة . والمقصود من التّمثيل تقريب الحالة وإلاّ فإنّ أهوالهم يومئذٍ أشدّ من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التّمثيل دلالة على هول الألم . وهذا كما يقال : وجدت ألَم الموت ، وقول أبي قتادة في وقعة حُنَين : « فَضمَّنِي ضَمَّة وَجَدْتُ منها ريحَ الموت » ، وقول الحارث بن هشام المخزومي :
وشَمِمْتُ ريحَ المَوْت من تِلْقائِهم *** في مَأزِقٍ والخيلُ لَمْ تَتَبَدّدِ
وجملة : { والملائكةُ باسطوا أيديهم } حال ، أي والملائكة مَادّونَ أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثّاني ، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأوّل ، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكّل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين . ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المَسّ والإيلام ، كقوله : { لئن بسطتَ إليّ يدَك لتقتلني } [ المائدة : 28 ] .
وجملة : { أخرجوا أنفسكم } مقول لقوللٍ محذوف . وحذف القول في مثله شائع ، والقول على هذا من جانب الله تعالى . والتّقدير : نقول لهم : أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات . والأمر للتعجيز ، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم ، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لأنّ هذا الحال قبلَ دخولهم النّار . ويجوز إبْقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعاً في حين دخولهم النّار .
والتّعريف في { اليوم } للعهد وهو يوم القيامة الّذي فيه هذا القول ، وإطلاق اليوم عليه مشهور ، فإنْ حُمل الغمرات على النّزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت ، أي وقت قبض أرواحهم .
وجملة : { اليوم تجزون } إلخ استئنافُ وعيد ، فُصلت للاستقلال والاهتمام ، وهي من قول الملائكة . و { تُجْزَوْن } تعْطَوْن جزاء ، والجزاء هو عِوض العمل وما يقابَل به من أجر أو عقوبة . قال تعالى : { جَزاء وفاقاً } [ النبأ : 26 ] ، وفي المثل : المرء مَجْزِيّ بما صَنَع إنْ خيراً فخير وإنْ شرّاً فشرّ . يقال : جزَاه يجزيه فهو جاز . وهو يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المعطَى جزاء ، ويتعدّى بالباء إلى الشّيء المكافَأ عنه ، كما في هذه الآية .
ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة [ يونس : 27 ] { والَّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها } مُتؤوّلاً على معنى الإضافة البيانيّة . أي جزاء هو سيّئة ، وأنّ مجرور الباء هو السيّئة المجزى عنها ، كما اختاره ابن جني . وقال الأخفش : الباء فيه زائدة لقوله تعالى : { وجزاء سيئة سيّئة مثلها } [ الشورى : 40 ] . ويقال : جازى بصيغة المفاعلة . قال الرّاغب : ولم يجيء في القرآن : جَازى .
والهُون : الهَوَان ، وهو الذّلّ . وفسّره الزّجاج بالهوان الشّديد ، وتبعه صاحب « الكشاف » ، ولم يقله غيرهما من علماء اللّغة . وكلام أهل اللّغة يقتضي أنّ الهُون مرادف الهوان ، وقد قرأ ابن مسعود { اليوم تجزون عذاب الهَوَان } . وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والمِلك ، أي العذاب المتمكّن في الهُون المُلازم له .
والباء في قوله : { بما كنتم تقولون } باء العوض لتعديّة فعل { تُجزون } إلى المجزي عنه . ويجوز جَعل الباء للسببيّة ، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم ، ويعلم أنّ الجزاء على ذلك ، و ( ما ) مصدريّة . ثمّ إن كان هذا القول صادراً من جانب الله تعالى فذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التّهويل . والأصل بما كنتم تقولون عليّ .
وضُمّن { تقولون } معنى تَكْذِبون ، فعُلّق به قوله : { على الله } ، فعلم أنّ هذا القول كذب على الله كقوله تعالى : { ولو تَقوّل علينا بعض الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] الآية ، وبذلك يصحّ تنزيل فعل { تقولون } منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول لأنّ المراد به أنّهم يكذبون ، ويصحّ جعل غير الحقّ مفعولاً ل { تقولون } ، وغير الحقّ هو الباطل ، ولا تكون نسبته إلى الله إلاّ كذباً .
وشمل { ما كنتم تقولون } الأقوالَ الثّلاثة المتقدّمة في قوله { ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً إلى قوله مثلَ ما أنزل الله } وغيرَها .
و { غير الحقّ } حال من ( ما ) الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به ل { تقولون } .
وقوله : { وكنتم عن آياته } عطف على { كنتم تقولون } ، أي وباستكباركم عن آياته . والاستكبار : الإعراض في قلّة اكتراث ، فبهذا المعنى يتعدّى إلى الآيات ، أو أريد من الآيات التأمّل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته ، أي تستكبرون عن التدبّر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات .
وجواب ( لو ) محذوف لقصد التّهويل . والمعنى : لرأيتَ أمراً مُفْظعاً . وحَذْفُ جواب ( لو ) في مثل هذا المقام شائع في القرآن . وتقدّم عند قوله تعالى : { ولو ترى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب } في سورة [ البقرة : 165 ] .