فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ} (93)

قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } هذه الجملة مقررة لمضمون ما تقدّم من الاحتجاج عليهم بأن الله أنزل الكتب على رسله ، أي كيف تقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، وذلك يستلزم تكذيب الأنبياء عليهم السلام ، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً فزعم أنه نبيّ وليس بنبيّ ، أو كذب على الله في شيء من الأشياء { أَوْ قَالَ أُوْحِي إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْء } أي والحال أنه لم يوح إليه شيء ، وقد صان الله أنبياءه عما تزعمون عليهم ، وإنما هذا شأن الكذابين رؤوس الإضلال ، كمسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وسجاح .

قوله : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله } معطوف على { من افترى } أي ومن أظلم ممن افترى أو ممن قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ، أو ممن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، وهم القائلون : { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } وقيل : هو عبد الله بن أبي سرح ، فإنه كان يكتب الوحي لرسول صلى الله عليه وسلم ، فأملى عليه رسول صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَر } فقال عبد الله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا أنزلت " فشكّ عبد الله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال ، ثم ارتدّ عن الإسلام ، ولحق بالمشركين ، ثم أسلم يوم الفتح كما هو معروف ، قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له ، والمراد كل ظالم ، ويدخل فيه الجاحدون لما أنزل الله ، والمدّعون للنبوات افتراء على الله دخولاً أوّلياً ، وجواب " لو " محذوف ، أي لرأيت أمراً عظيماً . والغمرات جمع غمرة : وهي الشدّة ، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ، ومنه غمرة الماء ، ثم استعملت في الشدائد ، ومنه غمرة الحرب . قال الجوهري : والغمرة الشدّة والجمع غمر : مثل نوبة ونوب ، وجملة : { والملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } في محل نصب ، أي والحال أن الملائكة باسطو أيديهم لقبض أرواح الكفار . وقيل للعذاب وفي أيديهم مطارق الحديد ، ومثله قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم } .

قوله : { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } أي قائلين لهم أخرجوا أنفسكم من هذه الغمرات التي وقعتم فيها ، أو أخرجوا أنفسكم من أيدينا وخلصوها من العذاب ، أو أخرجوا أنفسكم من أجسادكم ، وسلموها إلينا لنقبضها { اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي اليوم الذي تقبض فيه أرواحكم ، أو أرادوا باليوم الوقت الذي يعذبون فيه الذي مبدؤه عذاب القبر ، والهون والهوان بمعنى أي اليوم تجزون عذاب الهوان الذي تصيرون به في إهانة وذلة ، بعدما كنتم فيه من الكبر والتعاظم ، والباء في { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق } للسببية ، أي بسبب قولكم هذا من إنكار إنزال الله كتبه على رسله والإشراك به { وَكُنتُمْ عَنْ آياته تَسْتَكْبِرُونَ } عن التصديق لها والعمل بها ، فكان ما جوزيتم به من عذاب الهون : { جَزَاء وفاقا } .

/خ94