لما بيَّن كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله ، وبيَّن شَرَفَهُ ورِفْعَتَهُ ذكر بعده ما يَدُلُّ على وعيد من ادَّعَى النبوة والرسالة كذباً وافتراءً .
قال قتادةُ : نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذَّاب الحَنَفِيّ صاحب " اليمامة " وفي الأسْودِ العنسي صاحب " صنعاء " كانا يدَّعيانِ الرِّسالة والنبوة من عند الله كذباً وافتراء ، وكان مسيلمة يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : محمد رسول قريش ، وأنا رسول بني حنيفة{[14516]} .
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بَيْنَمَا أنَّا نَائِمٌ إذْ أوتيتُ خَزَائِنَ الأرْضِ ، فَوُضِعَ في يَدَيَّ سِوارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فكبرا عليَّ وأهمَّانِي ، فأوحى اللَّهُ إليَّ أنْ أنفخهما فَذَهَبَا فأوَّلتهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنَا بَيْنَهمَا صاحبَ صَنْعاءَ وصاحِبَ يَمامَة " {[14517]} .
قال القاضي{[14518]} : الذي يَفْتَري على الله الكذبَ يدخل فيه من يدَّعي الرسالة كَذِباً ولكن لا يقتصر عليه ؛ لأن العِبْرَةَ بعموم اللفظ ، لا بخصوص السَّبب .
قال القرطبي{[14519]} : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطِرِهمْ ، ويزعمون أن ذلك لِصَفَائِهَا من الأكْدَارِ ، وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الرَّبَّانِيَّة ، فيقفون على أسرار الكليات ، ويعلمون أحكام الجزئيات فَيْسْتَغُنُونَ بها عن أحكام الشَّرائع ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة ، وأما الأولياء ، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النُّصوص .
وقوله تعالى : " ومن أظلم " مبتدأ وخبر ، وقوله : " كذباً " فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مفعول " افترى " أي : اختلق كذباً وافتعله .
الثاني : أنه مَصْدرٌ له على المعنى ، أي : [ افترى ] افتراءً ، وفي هذا نظر ؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المَصْدرُ فيه نَوعاً من الفعل ، نحو : قعد القُرْفُصَاءَ أو مُرَادفاً له ك " قعدت جلوساً " أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو : افترى كذباً ، وتقرفصَ قعوداً ، فهذا غير معهود ، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمُّ من الافتراء ، وقد تقدَّم تحقيقه .
الثالث : أنه مفعول من أجلِهِ ، أي : افترى لأجل الكذبِ .
الرابع : أنه مصدر واقع موقع الحال ، أي : افترى حال كونه كاذباً ، وهي حال مؤكدة .
وقوله : " أو قال " عطف على " افترى " و " إلى " في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل ، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، قال : تقديره : " أوحى إليَّ الوحي " ، أو الإيحاء . والأوّل أولى ؛ لأن فيه فائدةً جديدةً ، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قَبْلَهُ .
قوله : " وَلَمْ يُوحَ إلَيْه " جملة حاليةٌ ، وحذف الفاعل هنا تعظيماً له ؛ لأن المُوحِي هو الله تعالى .
قوله : " ومَنْ قَالَ " مجرور المَحَلّ ؛ لأنه نَسَقٌ على " مَنْ " المجرور ب " من " أي : وممن قال ، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في " البقرة " : وهناك سؤال وجوابه .
قوله { سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ } وقرا أبو حيوة{[14520]} : " سأنزّل " مضعفاً وقوله : " مثل " يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه مَنْصُوبٌ على المفعول به ، أي : سأنزل قرآناً مِثْلَ ما أنزل الله ، و " ما " على هذا مَوصُولةٌ اسمية ، أن نكرة موصوفة ، أي : مثل الذي أنزله ، أو مثل شيء أنزله .
والثاني : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، تقديره : سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله ، و " ما " على هذا مصدرية ، أي : مثل إنزال الله .
قيل : " نزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي سَرْحٍ كان قد أسلم ، وكان يكتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه " سميعاً بصيراً " كتب عليماً حكيماً ، وإذا أملى عليه " عليماً حكيماً " كتب " غفوراً رحيماً " فلما نزل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون :12 ] أمْلاَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خَلْقِ الإنسان ، فلما انتهى إلى قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } فقال : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِين } [ المؤمنون :14 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اكتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ " فَشَكَّ عبد الله . فقال : لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتدَّ عن الإسلام ، ولحق بالمشركين " ، ثم رجع عبد الله إلى الإسْلام قبل فتح " مكّة " المشرفة ، إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : يريد النَّضْرَ بن الحارثِ ، والمستهزئين ، وهو جواب لقولهم : { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [ الأنفال :31 ] وقوله في القرآن : { إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } فكل أحد يمكنه الإتيان [ بمثله ]{[14521]} .
" وَلَوْ تَرَى " يا محمد " إذ الظالمون " و " إذ " منصوب ب " ترى " ، ومَفْعُول الرؤية محذوف ، أي : ولو ترى الكُفَّار الكذبةَ ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول ، أي : ولو كنت من أهل الرُّؤيةِ في هذا الوقتِ ، وجواب " لو " محذوف ، أي : لَرَأيْتَ أمراً عظيماً . و " الظالمون " يجوز أن تكون فيه " أل " للجنس ، وأن تكون للعهد ، والمراد بهم من تقدَّم ذكره من المشركين واليهود والكذبةِ المفترين و{ في غَمَراتِ المَوْتِ } خبر المبتدأ ، والجملة في مَحَلِّ خفض بالظَّرْفِ .
و " الغَمَراتُ " جمع " غَمْرة " وهي الشدة المفظعة وأصلها مِنْ غَمَرَهُ الماءُ إذا سَتَرَهُ ، وغَمْرَةُ كلِّ شيء كثرته ومعظمه ، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب .
ويقال : غمرت الشيء إذا علاه وغطَّاه .
قال الزَّجَّاج{[14522]} : يقال لكل من كان في شيء كثير : قد غَمَرَهُ ذلك وغمره الدَّيْنُ إذا كثر عليه ، ثم يقال للمَكَارِهِ والشدائد : غمرات ، كأنها تَسْتُرُ بغمرها وتنزل به قال في ذلك : [ الوافر ]
وَلاَ يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاَّ-*** بَرَاكَاءُ القِتَالِ أو الفِرارُ{[14523]}
ويجمع على " غُمَرَ " ك " عُمْرة " و " عُمَر " كقوله : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعُ{[14524]}
وقال الرَّاغِبُ{[14525]} : أصل الغَمْرِ إزالةُ أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله : غمر وغامر ، وأنشد غير الراغب على غامر : [ الكامل ]
نَصَفَ النَّهَارُ المَاءُ غَامِرُهُ *** وَرَفِيقهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي{[14526]}
ثم قال : " والغمرة مُعْظَمُ الماء لِسَتْرِهَا مَقَرَّهَا ، وجعلت مثلاً للجَهَالَةِ التي تغمر صاحبها " .
والغَمْرُ : الذي لم يُجَرِّب الأمور ، وجمعه أغْمَار ، والغِمْرُ : - بالكسر - الحِقْدُ ، والغَمْرُ بالفتح : الماء الكثير ، والغَمَرُ بفتح الغين والميم : ما يغمر من رائحة الدَّسَم سائر الروائح ، ومنه الحديث " مَنْ بَاتَ وفِي يَدَيْهِ غَمَرٌ " .
وغمر يده ، وغمر عرضه دنس ، ودخلوا في غُمَارِ الناس وخمارهم ، والغمرة ما يطلى به من الزَّعْفران ، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء : غمر ، وفلان مُغَامِرِ إذا رمى بنفسه في الحَرْبِ ، إما لِتَوغُّلِهِ وخوضه فيه ، وإما لِتَصَوُّر الغمارة منه .
قوله : { وَالمَلائِكَةُ بَاسِطُوا عليهم } [ جملة في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير ]{[14527]} المستكن في قوله : " في غمرات " ، و " أيديهم " خفض لفظاً ، وموضعه نصب أي : باسطو أيديهم بالعذابِ يضربون وجُوهَهُمْ وأدبارهم وقوله " أخرجوا " منصوب المحل بقول مضمر ، والقول يُضْمر كثيراً ، تقديره : يقولون : أخرجوا ، كقوله : { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد :23 ، 24 ] أي : يقولون : سلام عليكم ، وذلك القول المضمر في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير في " باسطو " .
فإن قيل : إنه لا قُدْرَةَ لهم على إخْرَاجِ أرواحهم من أجسادهم ، فما الفائدة في هذا الكلام ؟
فالجواب : أن في تفسير هذه الكلمة وجوه :
أحدها : ولو ترى الظَّالمين إذ صاروا إلى غمراتِ الموْتِ في الآخرة ، فأدخلوا جهنم ، وغمراتُ الموت عِبَارةٌ عما يصيبهم هناك من أنواع الشَّدائِدِ والعذاب ، والملائكة باسطو أيديهم [ عليهم بالعذابِ ] يُبَكِّتُونَهُمْ بقولهم : أخرجوا أنفسكم من هذا العذابِ الشديد إن قدرتم .
وثانيها : أن المعنى { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } عند نزول الموت في الدنيا ، والملائكة باسطو أيديهم لِقَبْضِ أرواحهم يقولون لهم : أخرجوا أنفسكم من هذه الشَّدائدِ ، وخَلِّصُوهَا من هذه الآلام .
وثالثها : " أخرجوا أنفسكم " [ أي : أخرجوها إلينا ] من أجسادكم ، وهذه عبارة عن العُنْفِ والتشديد في إزْهَاقِ الروح من غير تنْفِيسٍ وإمهال كما يفعل الغريمُ الملازم المُلحُّ ، ويقول : أخرج مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعة ، ولا أبرح من مكاني حتى أنْزعَهُ من أحْدَاقِكَ .
ورابعها : أن هذه اللَّفظة كناية عن شِدَّةِ حالهم ، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولَّى بنفسه إزْهَاقَ روحه .
خامسها : أنه ليس بأمر ، بل هو وعيدٌ [ وتقريع ]{[14528]} كقول القائل : امضِ الآن لترى ما يحلُّ بك .
قوله : " اليَوْمَ تُجْزَوْنَ } في هذا الظرف وجهان :
أظهرهما : أنه مَنْصُوبٌ ب " أخرجوا " بمعنى : أخرجوها من أبدانكم ، فهذا القول في الدنيا ، ويجوز أن يكون في يوم القيامةِ ، والمعنى خَلِّصُوا أنفسكم من العذابِ ، كما تقدَّم ، فالوقف على قوله : " اليوم " ، والابتداء بقوله : { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } .
والثاني : أنه منصوب ب " تجزون " والوقف حينئذ على " أنفسكم " ، والابتداء بقوله : " اليوم " والمراد ب " اليوم " يحتمل أن يكون وقتَ الاحتضار ، وأن يكون يوم القيامة ، و " عذاب " مفعول ثانٍ ، والأول قام مقام الفاعل .
والهُون : الهَوَان ؛ قال تعالى : { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } [ النحل :59 ] .
إذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أمِّي بِرَاعِيَةٍ *** تَرْعَى المخَاضَ ولا أغْضِي على الهُونِ{[14529]}
وقالت : الخَنْسَاءُ : [ المتقارب ]
يُهِينُ النُّفُوسَ وهُونُ النُّفُو *** سِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا{[14530]}
وأضاف العذابَ إلى الهُونِ إيذاناً بأنه متمكِّنٌ فيه ، وذلك أنه ليس كل عذاب يكون فيه هُونٌ ؛ لأنه قد لا يكون فيه هُونٌ ، لأنه قد يكون على سبيل الزَّجْرِ والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته ، وذلك أن الأصْلَ العذاب الهُون وصف به مُبَالغَة ، ثم أضافه إليه على حَدِّ إضافته في قولهم : بَقْلَةُ الحمقاَءِ ونحوه ، ويدل عليه أن الهُونَ بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك .
و " الهَوْن " بفتح الهاء : الرِّفْقُ والدَّعة ؛ قال تبارك وتعالى :
{ وَعِبَادُ الرحمان الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان :63 ] .
واعلم أنه -تبارك وتعالى- جمع هناك بين الإيلامِ والإهانَةِ ، فكما أن الثواب شَرْطُهُ أن يكون منْفَعَةً معروفة بالتعظيم ، فكذا العقاب شرطه أن يكون مَضَرَّةً مقرونة بالإهانِةِ .
قوله : " بِمَا كُنْتُمْ " " ما " مصدرية ، أي : بكونكم قائلين غير الحقِّ ، وكونكم مستكبرين و " الباء " متعلقة ب " تجزون " أي : بسببه ، و " غير الحق " نصبه من وجهين :
أحدهما : أنه مفعول به ، أي تذكرون غير الحق .
والثاني : أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف ، أي : تقولون القول غير الحق .
وقوله : " وكنتم " يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على " كنتم " الأولى ، فتكون صَلَةً كما تقدم .
والثاني : أنها جملة مُسْتَأنَفَة سيقت للإخبار بذلك و " عن آياته " متعلّق بخبر " كان " ، وقدم لأجل الفواصل ، والمراد بقوله : { كُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } أي : تَتَعَظَّمُونَ عن الإيمان بالقرآن لا تُصَدِّقُونَهُ .
وذكر الواحدي{[14531]} أي : لا تُصَلُّونَ له ، قال عليه الصلاة والسلام : " مَنْ سَجَدَ [ لِلَّهِ سَجْدَةً ]{[14532]} بنِيَّةٍ صَادِقَةٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ " {[14533]} .