الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ} (93)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن أظلم}، هذه الآية مدنية، فلا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوحى إليه شيء}، نزلت في مسيلمة بن حبيب الكذاب الحنفي، حيث زعم أن الله أوحى إليه النبوة.

{ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}، فلا أحد أيضا أظلم منه، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي، من بني عامر بن لؤي، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة، كان يتكلم بالإسلام، وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم يوما سورة النساء، فإذا أملى عليه النبي صلى الله عليه وسلم: {غفورا رحيما}، كتب: {عليما حكيما}، وإذا أملى عليه: {سميعا بصيرا} كتب: {سميعا عليما}، فقال لقوم من المنافقين: كتبت غير الذي أملى علي، وهو ينظر إليه فلم يغيره، فشك عبد الله بن سعد في إيمانه، فلحق بمكة كافرا، فقال لهم: لئن كان محمد صادقا فيما يقول، لقد أنزل علي كما أنزل عليه، ولئن كان كاذبا، لقد قلت كما قال، وإنما شك لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه، فلم يغير ذلك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يكتب. {ولو ترى إذ الظالمون}، يعني مشركي مكة، {في غمرات الموت}، يعني في سكرات الموت، إذ قتلوا ببدر، {والملائكة باسطوا أيديهم} عند الموت تضرب الوجوه والأدبار، يعني ملك الموت وحده، وهو يقول: {أخرجوا أنفسكم}، يعني أرواحكم، فلما بعثوا في الآخرة، وصاروا في النار، قالت لهم خزنة جهنم: {اليوم تجزون عذاب الهون}: الهوان بغير رأفة ولا رحمة، نظيرها في الأنفال، {بما كنتم تقولون على الله} في الدنيا، {غير الحق} بأن معه شريكا، {وكنتم عن آياته تستكبرون}: وكنتم تتكبرون عن الإيمان بالقرآن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنْ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا": ومن أخطأُ قولاً وأجهلُ فعلاً "ممن افترى على الله كذبا": ممن اختلق على الله كذبا، فادّعى عليه أنه بعثه نبيا وأرسله نذيرا، وهو في دعواه مبطل وفي قيله كاذب. وهذا تسفيه من الله لمشركي العرب وتجهيل منه لهم في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح والحنفي مُسَيْلِمة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أحدهما النبوّة ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق الكذب عليه ودعوى الباطل.

وقد اختلف أهل التأويل في ذلك؛

فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه.

وقال بعضهم: بل نزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة.

عن السديّ: "وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ "إلى قوله: "تُجْزَوْنَ عذَابَ الهُونِ "قال: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح؛ أسلم وكان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أملى عليه «سميعا عليما»، كتب هو: «عليما حكيما» وإذا قال: «عليما حكيما» كتب: «سميعا عليما». فشكّ وكفر، وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحيَ إليّ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله، قال محمد: «سميعا عليما»، فقلت أنا: «عليما حكيما». فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرميّ أو لبني عبد الدار، فأخذوهم فعذّبوا حتى كفروا. وجُدعت أذن عمار يومئذ، فانطلق عمار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما لقي والذي أعطاهم من الكفر، فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتولاه، فأنزل الله في شأن ابن أبي سَرح وعمار وأصحابه: "مَنْ كَفَرَ باللّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بالكُفْرِ صَدْرًا" فالذي أُكره عمار وأصحابه، والذي شرح بالكفر صدرا فهو ابن أبي سرح.

وقال آخرون: بل القائل: "أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ" مسيلمة الكذّاب. وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: إن الله قال: "وَمَنْ أظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى على الله كَذِبا أوْ قالَ أُوحِيَ إليّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ" ولا تَمَانُعَ بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: إني قد قلت مثل ما قال محمد، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين. فكان لا شكّ بذلك من قيله مفتريا كذبا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذّابين ادّعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كلّ واحد منهما: إن الله أوحي إليه وهو كاذب في قيله.

فإذا كان ذلك كذلك فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقاً على الله كذباً وقائلاً في ذلك الزمان وفي غيره أوحى الله إليه، وهو في قيله كاذب لم يوح الله إليه شيئاً، فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عُني به جميع المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم فلم يغيروه، فعيرهم الله بذلك وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون ولنبوته جاحدون ولآيات كتاب الله وتنزيله دافعون، فقال لهم جل ثناؤه: ومن أظلم ممن ادعى على النبوّة كاذباً وقال {أوحيَ إليَّ وَلمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ} ومع ذلك يقول {ما أنْزَلَ اللّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فينقض قوله بقوله ويكذب بالذي تحققه وينفي ما يثبته، وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من عقله عديم وقد رُوِي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله {وَمَنْ قالَ سأُنْزِلُ مِثْلَ ما أنْزَلَ اللّهُ}: زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر. فكان ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوله يوجه معنى قول قائل: "سأنزل مثل ما أنزل الله" إلى سأنزل مثل ما قال الله من الشعر.

{وَلَوْ َتَرى إذِ الظَّالِمُونَ في غَمَرَاتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ}.

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى يا محمد حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهَة والأنداد، والقائلين ما أنزل الله على بشر من شيء، والمفترين على الله كذباً، الزاعمين أن الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء، والقائلين سأنزل مثل ما أنزل الله فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت، ونزل بهم أمر الله، وحان فناء آجالهم، والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم، كما قال جل ثناؤه: "فَكَيْفَ إذَا تَوَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدْبارَهم ذلكَ بأنَّهُمْ اتَّبَعُوا ما أسْخَطَ اللّهَ وَكّرِهُوا رِضْوَانَهُ" يقولون لهم: "أخْرِجُوا أنْفسَكُمْ"، والغمرات: جمع غمرة، وغمرة كل شيء: كثرته ومعظمه، وأصله: الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها... قال ابن عباس قوله {وَلَوْ تَرَى إذ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ} قال: سكرات الموت.

وأما بسط الملائكة أيديهم فإنه مدّها. ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك؛

فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك... عن ابن عباس، قوله: {وَلَوْ تْرىَ إذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ المَوْتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ} قال: هذا عند الموت. والبسْط الضرب يضربون وجوههم وأدبارهم.

وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب...

فإن قال قائل ما وجه قوله {أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ} ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها ربّ العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار، وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؛ فإن كان ذلك كذلك فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [إليه] ذهبتَ، وإنما ذلك أمر من الله على ألسن رسله الذين يقبضون أرواح هؤلاء القوم من أجسامهم، بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه وتسليمها إلى رسله الذين يتوفونها.

{اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ على اللّهِ غيرَ الحَقّ وكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}.

وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما تقول رسل الله التي تقبض أرواح هؤلاء الكفار لها، يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أخرجوا أنفسكم إلى سخط الله ولعنته:، فإنكم اليوم تثابون على كفركم بالله، وقيلكم عليه الباطل، وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوح إليكم شيئاً، وإنذاركم أن يكون الله أنزل على بشر شيئاً، واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله والانقياد لطاعته. {عَذَابَ الهُونِ} وهو عذاب جهنم الذي يهينهم فيذلهم، حتى يعرفوا صغَار أنفسهم وذلتها.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} هذا في الظاهر استفهام وسؤال لم يذكر له جواب. لكن أهل التأويل فسروا، فقالوا: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذبا} وهذا جواب له، هو تفسيره. لكن ترك ذكر الجواب لمعرفة أهل الخطاب به، وقد يكون الجواب لمعرفة أهله به. وقوله تعالى: {ومن أظلم} أكثرهم قد ظلموا، أو كلهم قد ظلموا. لكن كأنه قال: لا أحد أفحش ظلما ممن افترى على الله لأنه يتقلب في أنعم الله في ليله ونهاره وإحسانه فهو أفحش ظلما، وأوحش كذبا... وذكر أهل التأويل أن قوله تعالى: {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} نزل في مسيلمة الكذاب، ونزل قوله تعالى: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، لكن ليس لنا إلى معرفة هذا حاجة؛ هم وغيرهم ومن ادعى، وافترى على الله كذبا، سواء في الوعيد... {في غمرات الموت} أي كثرة العذاب وشدته؛ يقال للشيء الكثير الغمر، وهو كقوله تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان} [إبراهيم: 17] أي أسباب الموت. ولو كان هناك موت يموت لشدة العذاب.

{باسطوا أيديهم} بضرب الوجوه والأدبار {أخرجوا أنفسكم} على حقيقة الخروج منها كقوله تعالى: {يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها} [المائدة: 37] والأول ليس على حقيقة الخروج، ولكن كما يقال عند نزول الشدائد: أخرج نفسك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلَوْ تَرَى} جوابه محذوف. أي: رأيت أمراً عظيماً.

{إِذِ الظالمون} يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة، فتكون اللام للعهد. ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله. و {غَمَرَاتِ الموت} شدائده وسكراته، وأصل الغمرة: ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدّة الغالبة، {بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم. وهذه عبارة عن العنف في السياق، والإلحاح، والتشديد في [الإزهاق]، من غير تنفيس وإمهال، وإنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله، ويقول له: [أخرج] إليّ ما لي عليك الساعة، ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك. وقيل: معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} خلصوها من أيدينا، أي لا تقدرون على الخلاص. {اليوم تُجْزَوْنَ} يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة. والهون: الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه. {عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تؤمنون بها.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذه ألفاظ عامة فكل من واقع شيئاً مما يدخل تحت هذه الألفاظ فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى بقوله: {ومن أظلم} أي لا أحد أظلم... فخصص المتأولون في هذه الآيات ذكر قومٍ قد يمكن أن كانوا أسباب نزولها ثم هي إلى يوم القيامة تتناول من تعرض شيئاً من معانيها كطليحة الأسدي والمختار بن أبي عبيد وسواهما...

و «الغمرات» جمع غمرة وهي المصيبة المبهمة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء،... {والملائكة} ملائكة قبض الروح، و {باسطو أيديهم} كناية عن مدها بالمكروه كما قال تعالى حكاية عن ابني آدم: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني}. وهذا المكروه هو لا محالة أوائل عذاب وأماراته.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى لما شرح كون القرآن كتابا نازلا من عند الله وبين ما فيه من صفات الجلالة والشرف والرفعة، ذكر عقيبه ما يدل على وعيد من ادعى النبوة والرسالة على سبيل الكذب والافتراء فقال: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} وفي الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى عظم وعيد من ذكر أحد الأشياء الثلاثة: فأولها: أن يفتري على الله كذبا. قال المفسرون: نزل هذا في مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة، وفي الأسود العنسي صاحب صنعاء، فإنهما كانا يدعيان النبوة والرسالة من عند الله على سبيل الكذب والافتراء، وكان مسيلمة يقول: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة. قال القاضي: الذي يفتري على الله الكذب يدخل فيه من يدعي الرسالة كذبا، ولكن لا يقتصر عليه، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو برئ منه، كان داخلا تحت هذا الوعيد... والنوع الثاني: من الأشياء التي وصفها الله تعالى بكونها افتراء قوله: {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} والفرق بين هذا القول وبين ما قبله، أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه وما كان يكذب بنزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم، وأما في هذا القول، فقد أثبت الوحي لنفسه ونفاه عن محمد عليه الصلاة والسلام، وكان هذا جمعا بين نوعين عظيمين من الكذب، وهو إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود.

والنوع الثالث: قوله: {سأنزل مثل ما أنزل الله} قال المفسرون: المراد ما قاله النضر بن الحرث وهو قوله: {لو نشاء لقلنا مثل هذا} وقوله في القرآن: إنه من أساطير الأولين، وكل أحد يمكنه الإتيان بمثله، وحاصله: أن هذا القائل يدعي معارضة القرآن. وروي أيضا أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب الوحي للرسول عليه الصلاة والسلام، فلما نزل قوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} أملاء الرسول عليه السلام، فلما انتهى إلى قوله: {ثم أنشأناه خلقا آخر} عجب عبد الله منه فقال: فتبارك الله أحسن الخالقين! فقال الرسول: هكذا أنزلت الآية، فسكت عبد الله وقال: إن كان محمد صادقا، فقد أوحي إلي، وإن كان كاذبا فقد عارضته، فهذا هو المراد من قوله: {سأنزل مثل ما أنزل}.

{ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} فاعلم أن أول الآية وهو قوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} يفيد التخويف العظيم على سبيل الإجمال وقوله بعد ذلك: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} كالتفصيل لذلك المجمل، والمراد بالظالمين الذين ذكرهم، وغمرات الموت جمع غمرة وهي شدة الموت، وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الماء، وغمرة الحرب، ويقال غمره الشيء إذا علاه وغطاه. وقال الزجاج: يقال لكل من كان في شيء كثير قد غمره ذلك. وغمره الدين إذا كثر عليه هذا هو الأصل، ثم يقال للشدائد والمكاره: الغمرات، وجواب «لو» محذوف، أي لرأيت أمرا عظيما، والملائكة باسطو أيديهم قال ابن عباس: ملائكة العذاب باسطو أيديهم يضربونهم ويعذبونهم، كما يقال بسط إليه يده بالمكروه أخرجوا أنفسكم. ههنا محذوف، والتقدير: يقولون أخرجوا أنفسكم، وفيه مسألتان:

المسألة الأولى: في الآية سؤال: وهو أنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الكلام؟

فنقول: في تفسير هذه الكلمة وجوه:

والوجه الرابع: أن هذه اللفظة كناية عن شدة حالهم وأنهم بلغوا في البلاء والشدة إلى حيث تولى بنفسه إزهاق روحه.

والوجه الخامس: أن قوله: {أخرجوا أنفسكم} ليس بأمر، بل هو وعيد وتقريع، كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك. قال المفسرون: إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه ونفس الكافر تكره ذلك فيشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب،وذلك عند نزع الروح، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هاتان الآيتان في بيان وعيد من كذب على الله وادعى الوحي أو الإتيان بمثله قفي بهما على ما تقدم من كون الوحي من شؤونه تعالى ومتعلق صفاته، ومن الرد على منكريه وإثبات كون هذا القرآن الذي أنكروا إنزاله على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشر كالتوراة التي يعترفون بإنزالها على موسى وهو بشر، على أنه أكمل من التوراة وغيرها من الكتب الإلهية، ولذلك خوطب به جميع الناس، وجعل مكملا وخاتما للأديان. وهذا الوعيد يتضمن الشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إذا لم يكن له مندوحة عن الإيمان بأن القرآن من عند الله تعالى وعن الاهتداء به بالمحافظة على الصلوات وما يتبعها ويستلزمها كما تقدم آنفا. فكيف يمكن أن يكون أكمل الناس إيمانا بالله وخشية له، وإيمانا بالدار الآخرة وما فيها من الجزاء – وهو محمد عليه أفضل الصلاة والسلام – ممن يعرض نفسه لهذا الجزاء وهو منتهى الظلم الذي يترتب عليه أشد الوعيد.

قال تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا}: افتراء الكذب على الله: الاختلاق عليه بالحكاية عنه والعزو إليه أو باتخاذ الشركاء والأنداد له كما يؤخذ من مجموع ما ورد في ذلك، وهو المتبادر من اللفظ، وقد سبق مثل هذا الاستفهام الإنكاري في أوائل هذه السورة وسيأتي مثله في أواخرها {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم} [الأنعام: 144] وهو فيمن يدعي الوحي كذبا. ومثل ذلك في الأعراف ويونس وهود والكهف والعنكبوت والصف. وأشبه ما في هذه السور بمعنى الآية التي تفسرها آية يونس فإنها في سياق الكلام على القرآن، قال {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذي لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله، قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي، إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون} [يونس: 15، 17] وقد فسر الآلوسي افتراء الكذب هنا بإنكار الوحي وهو لا يتفق مع ما بيناه آنفا والمعنى لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا.

{أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} جعل بعضهم أو هنا بمعنى الواو كقوله تعالى حكاية عن قوم شعيب {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} [هود: 62] {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87]، فيكون العطف فيه لتفسير افتراء الكذب، وتعقب بأن التفسير لا يأتي بأو، والمختار أنه من عطف المقيد على المطلق أو الخاص على العام، فإن افتراء الكذب على الله يشمل كل قول على الله بغير علم سواء كان ذلك في ذاته أو صفاته أو أفعاله فيدخل فيه ادعاء الوحي، ومنه ادعاء التحليل والتحريم وغير ذلك من أحكام الشرع بغير علم، وفي هذا الأخير آية الأنعام 144 وهي الثالثة في هذا المعنى وستأتي إن شاء الله تعالى. وجعل بعضهم « أو» للتنويع في المعنى الواحد كأن يراد بالافتراء ادعاء النبوة من غير ذكر الوحي، وبالثاني ادعاء الوحي من غير ذكر النبوة والرسالة، وإن كانا متلازمين. وما اخترناه أظهر. قالوا: نزل هذا في الذين ادعوا النبوة من العرب وروي عن عكرمة وقتادة تخصيص مسيلمة الكذاب، والحق أنه يدخل في عموم حكمه من ذكر، والسورة مكية نزلت قبل ادعائهم النبوة بزمن طويل فالمعروف أن مسيلمة ادعى النبوة سنة عشر من الهجرة حتى قيل إن ذلك كان بعد حجة الوداع وفي أثناء مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن ومسيلمة باليمامة وطليحة في بني أسد فادعوا النبوة. ذكره ابن الأثير في تاريخه. ويكفي في صحة الوعيد فرض وقوع الذنب أو توقعه، وناهيك بوعيد عالم الغيب والشهادة جل وعز.

{ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله أو ادعى الوحي منه وممن ادعى انه قادر على إنزال مثل ما لأنزل على رسوله، كمن قال من المشركين (لو نشاء لقلنا مثل هذا) وهو النضر بن الحارث فقد كان ممن يقول من كفار مكة عن القرآن أساطير الأولين وإنه شعر لو نشاء لقلنا مثله. وروى ابن جرير عن عكرمة والسدي أن هذا نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخي بني عامر بن لؤي أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا أملى عليه « سميعا عليما» كتب هو « عليما حكيما» والعكس فشك وكفر وقال إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلي وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. هذا تمثيل رواية السدي لما كان يغيره من عبارة الوحي. وعبارة عكرمة أنه كان يملي عليه «عزيز حكيم» فيكتب «غفور رحيم» وهاتان الروايتان باطلتان فإنه ليس في شيء من السور المكية «سميعا عليما» ولا «عليما حكيما» ولا «عزيز حكيم» إلا في سورة لقمان والمروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الأنعام وأن الآية التي ختمت بقوله تعالى: {عزيز حكيم} منها واثنتين بعدها مدنيات (كما في الإتقان).

وذكر بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه قوله سبحانه في سورة المؤمنين {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} -فلما انتهى قوله تعالى- {ثم أنشأناه خلقا آخر} [المؤمنين: 14] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هكذا أنزلت علي» فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. ولم أر هذه الرواية في كتب التفسير المأثور. ويقال فيها مثل ما قيل في الروايتين الأوليين من حيث التاريخ فالمروي أن الأنعام نزلت قبل سورة المؤمنين وأن بينهما سورة مكية. وما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه والرواية غير صحيحة ولكن ذكروا في التفسير المأثور أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال ذلك فكان مما وافق فيه خاطره القرآن، وهو جائز إن صحت الرواية، وقد يكون من الكشف الذي يعبر عنه علماء النفس اليوم بقراءة الخواطر. ورووا مثله أيضا عن معاذ وإنما أسلم معاذ في المدينة بعد نزول السورة. وروي أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن ولعله قال شيئا مما ذكر في الروايات عنه كذبا وافتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم يكن فيها شيء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، وقد رجع إلى الإسلام قبل الفتح ولو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام.

ثم ذكر تعالى وعيد الظالمين الذين يعد من وصفوا في الآية أشدهم ظلما وأفحشهم جرما فقال {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} الخ الخطاب للرسول ثم لكل من سمعه أو قرأه، وجواب « لو» محذوف للتهويل، والغمرات جمع غمرة قيل هي في أصل اللغة المرة من غمره الماء إذا غطاه ثم استعيرت للشدة وعليه الشهاب، وقال الراغب أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله غمر وغامر. والغمرة معظم الماء الساترة لمقرها وجعل مثلا للجهالة التي تغمر صاحبها، وقيل للشدائد غمرات اه ملخصا والمعنى لو تبصر أو تعلم إذ يكون الظالمون الذين ذكروا في الآية أو جنس الظالمين الشامل لهم ولغيرهم في غمرات الموت وهي سكراته وما يتقدمه من شدائد الآلام البدنية أو النفسية أو مجموعهما التي تحيط بهم كما تحيط غمرات الماء بالغرقى.

{والملائكة باسطوا أيديهم} إليهم بالعذاب يوم البعث أو باسطوها لقبض أرواحهم الخبيثة بالعنف والضرب كما قال: {فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} [محمد: 27] واختاره ابن جرير. وقد استعمل بسط اليد بمعنى الإيذاء المطلق في قوله تعالى: {إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم} [المائدة: 11] فإن أكثر الإيذاء العملي يكون بمد اليد، فإن أريد إيذاء معين ذكر كقوله تعالى حكاية في قصة ابني آدم {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني} [المائدة: 28] الآية وقوله: {أخرجوا أنفسكم} حكاية لقول الملائكة لهم عند بسط أيديهم لتعذيبهم أو لقبض أرواحهم، ومعناه أخرجوها مما هي فيه أي إن استطعتم- فهو أمر توبيخ وتهكم، أو أخرجوها من أبدانكم. قال صاحب الكشاف إن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ليعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: اخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم (أي لا أبرح) مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ووافقه صاحب الكشف في المعنى ولكنه جعل الكلام كناية عن العنف في السياق، والإلحاح والتشديد في الإرهاق، من غير تنفيس ولا إمهال. وإنه ليس هناك بسط يد ولا قول لسان، وكل من القولين جائز لغة لا تكلف فيه، وكان يكون متعينا، لو كان صدور ما ذكر عن الملائكة متعذرا، ولو كشف لصاحبي الكشاف والكشف الحجاب عن تمثيل الملائكة للبشر بمثل صورهم، ومخاطبتهم بمثل كلامهم، لرأيا أنهما في مندوحة عن العدول عن الحقيقة إلى التمثيل أو الكناية. وقد تعقب الأول ابن المنير بأن هذه الأمور ممكنة على الحقيقة فلا معدل عنها.

{اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93)} هذا من قول الملائكة أو تتمته هنا. واليوم في اللغة الزمن المحدود بصفة أو عمل يقع فيه كأيام الأسبوع وأيام العرب المعروفة في تحديد وقائعها وحروبها، والمراد به يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وقيل إن المراد به وقت الموت بناء على القولين في بسط اليد، والتحقيق أن المراد ببسط اليد مدها لتعذيبهم يوم القيامة وحينئذ يقولون لهم هذا القول ولا يصح القول الآخر إلا إذا صح جعل وقت الموت مبدأ يوم القيامة وهو خلاف الظاهر، والمعنى: اليوم تلقون عذاب الذل والهوان 170 لا ظلما من الرحمن، بل جزاء ظلمكم لأنفسكم بسبب ما كنتم تقولون مفترين على الله غير الحق، كقول بعضكم: ما أنزل الله على بشر من شيء، وزعم بعض آخر أنه أوحي إليه ولم يوح إليه شيء، وجحد طائفة منكم لما وصف الله تعالى به نفسه من الصفات، واتخاذ أقوام له البنين والبنات، واستكبار آخرين عما نصبه وما أنزله من الآيات البينات، احتقارا من بعضهم لمن كرمه الله بإظهارها على يده ولسانه، وخشية بعض آخر من تغيير عشرائه وأقرانه، وحاصل المعنى: ولو ترى أيها المخاطب بهذا ما يحل بالظالمين عند الموت ويوم البعث والجزاء مما ذكر لرأيت أمرا عظيما وعذابا أليما.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما، ولا أكبر جرما، ممن كذب [على] الله. بأن نسب إلى الله قولا أو حكما وهو تعالى بريء منه، وإنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب، وتغيير الأديان أصولها، وفروعها، ونسبة ذلك إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد. ويدخل في ذلك، ادعاء النبوة، وأن الله يوحي إليه، وهو كاذب في ذلك، فإنه -مع كذبه على الله، وجرأته على عظمته وسلطانه- يوجب على الخلق أن يتبعوه، ويجاهدهم على ذلك، ويستحل دماء من خالفه وأموالهم. ويدخل في هذه الآية، كل من ادعى النبوة، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والمختار، وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف. {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ْ} أي: ومن أظلم ممن زعم. أنه يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه، ويشرع من الشرائع، كما شرعه الله. ويدخل في هذا، كل من يزعم أنه يقدر على معارضة القرآن، وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله. وأي: ظلم أعظم من دعوى الفقير العاجز بالذات، الناقص من كل وجه، مشاركةَ القوي الغني، الذي له الكمال المطلق، من جميع الوجوه، في ذاته وأسمائه وصفاته؟ "ولما ذم الظالمين، ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة فقال: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ْ} أي: شدائده وأهواله الفظيعة، وكُرَبه الشنيعة –لرأيت أمرا هائلا، وحالة لا يقدر الواصف أن يصفها. {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ ْ} إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب والعذاب، يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها، وتعصيها للخروج من الأبدان: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ْ} أي: العذاب الشديد، الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل، فإن هذا العذاب {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ْ} من كذبكم عليه، وردكم للحق، الذي جاءت به الرسل. {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ْ} أي: تَرَفَّعون عن الانقياد لها، والاستسلام لأحكامها. وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب، والعذاب الموجه إليهم، إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لمّا تقضّى إبطال ما زعموه من نفي الإرسال والإنزال والوحي، النّاشئ عن مقالهم الباطل، إذ قالوا {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]، وعقّب ذلك بإثبات ما لأجله جحدوا إرسال الرّسل وإنزال الوحي على بشر، وهو إثبات أنّ هذا الكتاب منزّل من الله، عُقّب بعد ذلك بإبطال ما اختلقه المشركون من الشّرائع الضّالة في أحوالهم الّتي شرعها لهم عَمْرو بن لُحَيّ من عبادة الأصنام، وزعمهم أنّهم شفعاءُ لهم عند الله، وما يستتبع ذلك من البحيرة، والسّائبة، وما لم يذكر اسم الله عليه من الذبائح، وغير ذلك. فهم ينفون الرّسالة تارة في حين أنّهم يزعمون أنّ الله أمرهم بأشياء فكيف بلَغهم ما أمرهم الله به في زعمهم، وهم قد قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]. فلزمهم أنّهم قد كذَبوا على الله فيما زعموا أنّ الله أمرهم به لأنّهم عطّلوا طريق وصول مراد الله إلى خلقه وهو طريق الرّسالة فجاءوا بأعجب مقالة.

وذكر من استخفّوا بالقرآن فقال بعضهم: أنا أوحيَ إليّ، وقال بعضهم: أنا أقول مثلَ قول القرآن، فيكون المراد بقوله: {ومن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً} تسفيه عقائد أهل الشّرك والضّلالة منهم على اختلافها واضطرابها. ويجوز أن يكون المراد مع ذلك تنزيه النّبيء صلى الله عليه وسلم عمّا رموه به من الكذب على الله حين قالوا: {ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91] لأنّ الّذي يعلم أنّه لا ظلم أعظم من الافتراء على الله وادّعاءِ الوحي باطلاً لا يُقدم على ذلك، فيكون من ناحية قول هرقل لأبي سفيان « وسألتُك هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكَرْتَ أنّ لا، فقد أعرِفُ أنّه لم يكن ليَذَر الكذب على النّاس ويكذب على الله».

والاستفهام إنكاري فهو في معنى النّفي، أي لا أحد أظلم من هؤلاء أصحاب هذه الصّلات. ومساقه هنا مساق التّعريض بأنّهم الكاذبون إبطالاً لتكذيبهم إنزال الكتاب، وهو تكذيب دلّ عليه مفهوم قوله: {والّذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به} [الأنعام: 92] لاقتضائه أنّ الّذين لا يؤمنون بالآخرة وهم المشركون يكذّبون به؛ ومنهم الذّي قال: أوحي إليّ؛ ومنهم الّذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله؛ ومنهم من افترى على الله كذباً فيما زعموا أنّ الله أمرهم بخصال جاهليتهم. ومثل هذا التّعريض قوله تعالى في سورة [العقود: 60] {قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه} الآية عقب قوله: {يأيّها الّذين آمنُوا لاَ تَتَّخذُوا الَّذين اتَّخذوا دِينكم هُزؤاً ولعباً من الَّذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء} [المائدة: 57] الآية.

وتقدّم القول في {ومَنْ أظلم} عند قوله تعالى: {ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} في سورة البقرة: 114].

وافتراء: الاختلاق، وتقدّم في قوله تعالى: {ولكن الّذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة [العقود: 103].

و {مَن} موصولة مراد به الجنس، أي كلّ من افترى أو قال، وليس المراد فرداً معيّناً، فالّذين افتروا على الله كذباً هم المشركون لأنهم حلّلوا وحرّموا بهواهم وزعموا أنّ الله أمرهم بذلك، وأثبتوا لله شفعاء عنده كذباً.

و {أوْ قال أوحي إليّ} عطف على صلة {مَن}، أي كلّ من ادّعى النّبوءة كذباً، ولم يزل الرّسل يحذّرون النّاس من الّذين يدّعون النّبوءة كذباً كما قدّمته. روي أنّ المقصود بهذا مسيلمة متنبّئ أهل اليمامة، قاله ابن عبّاس وقتادة وعكرمة. وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادّعى النّبوءة قبل هجرة النّبيء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لأنّ السّورة مكّية. والصّواب أنّ مسيلمة لم يدع النّبوءة إلاّ بعد أن وفد على النّبيء صلى الله عليه وسلم في قومه بني حنيفة بالمدينة سنة تسع طامعاً في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمرَ بعده فلمّا رجع خائباً ادّعى النّبوءة في قومه.

وفي « تفسير» ابن عطيّة أنّ المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسودُ العَنْسِي المتنبّئ بصنعاء. وهذا لم يقله غير ابن عطيّة. وإنّما ذكرَ الطّبري الأسود تنظيراً مع مسيلمة فإنّ الأسود العنْسي ما ادّعى النّبوءة إلاّ في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوجه أنّ المقصود العموم ولا يضرّه انحصار ذلك في فرد أو فردين في وقت مَّا وانطباق الآية عليه.

وأمّا {من قال سأنزل مثل ما أنزل الله}، فقال الواحدي في « أسباب النّزول»، عن ابن عبّاس وعكرمة: أنّها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري وكان قد أسلم بمكّة، وكان يكتب الوحي للنّبيء صلى الله عليه وسلم ثمّ ارتدّ وقال: أنا أقول مثل ما أنزل الله، استهزاء، وهذا أيضاً لا ينثلج له الصّدر لأنّ عبد الله بن أبي سرح ارتدّ بعد الهجرة ولحق بمكّة وهذه السّورة مكّية. وذكر القرطبي عن عكرمة، وابنُ عطيّة عن الزّهراوي والمهدوي أنّها: نزلت في النضر بن الحارث كان يقول: أنا أعارض القرآن. وحفظوا له أقوالاً، وذلك على سبيل الاستهزاء. وقد رووا أنّ أحداً من المشركين قال: إنّما هو قول شاعر وإنّي سأنزل مثله؛ وكان هذا قد تكرّر من المشركين كما أشار إليه القرآن، فالوجه أنّ المراد بالموصول العموم ليشمل كلّ من صدر منه هذا القول ومن يتابعهم عليه في المستقبل.

وقولهم: {مثلَ ما أنزل الله} إمّا أن يكونوا قالوا هذه العبارة سخرية كما قالوا: {يأيّها الّذي نُزّلَ عليه الذّكْر إنّك لمجنون} [الحجر: 6]، وإمّا أن يكون حكاية من الله تعالى بالمعنى، أي قال سأنزل مثل هذا الكلام، فعبَّر الله عنه بقوله: {ما أنزل الله} كقوله: {وقولِهم إنَّا قتلْنا المسيحَ عيسى ابن مريم رسولَ الله} [النساء: 157].

{وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ}.

عُطِفت جملة: {ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت} على جملة: {ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً} لأنّ هذه وعيد بعقاب لأولئك الظّالمين المفترين على الله والقائلين « أوحي إلينا» والقائلين {سأنزل مثل ما أنزل الله}.

ف {الظّالمون} في قوله: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} يشمل أولئك ويشمل جميع الظّالمين المشركين، ولذلك فالتّعريف في {الظّالمون} تعريفُ الجنس المفيد للاستغراق. والخطاب في {تَرى} للرّسول صلى الله عليه وسلم أو كلّ من تتأتَّى منه الرّؤية فلا يختصّ به مخاطب. ثمّ الرّؤية المفروضة يجوز أن يُراد بها رؤية البصر إذا كان الحال المحكي من أحوال يوم القيامة، وأن تكون عِلميّة إذا كانت الحالة المحكيّة من أحوال النّزع وقبض أرواحهم عند الموت.

ومفعول {ترى} محذوف دلّ عليه الظّرف المضاف. والتّقدير: ولو ترى الظّالمين إذ هم في غمرات الموت، أي وقْتهم في غمرات الموت، ويجوز جعل (إذْ) اسماً مجرّداً عن الظرفيّة فيكون هو المفعول كما في قوله تعالى: {واذكروا إذْ كنتم قليلاً} [الأعراف: 86] فيكون التّقدير، ولو ترى زمَنَ الظّالمون في غمرات الموت. ويتعيّن على هذا الاعتبار جعل الرّؤية عِلميّة لأنّ الزّمن لا يُرى.

والمقصود من هذا الشّرط تهويل هذا الحال، ولذلك حذف جواب (لو) كما هو الشّأن في مقام التّهويل. ونظائرُه كثيرة في القرآن. والتّقدير: لرأيت أمراً عظيماً.

والغمرة بفتح الغين ما يغمُر، أي يَغُمّ من الماء فلا يترك للمغمور مخلصاً. وشاعت استعارتها للشدّة تشبيهاً بالشدّة الحاصلة للغريق حين يغمره الوادي أو السّيل حتّى صارت الغمرة حقيقة عرفيّة في الشدّة الشّديدة.

وجَمْع الغمرات يجوز أن يكون لتعدّد الغمرات بعدد الظّالمين فتكون صيغة الجمع مستعملة في حقيقتها. ويجوز أن يكون لقصد المبالغة في تهويل ما يصيبهم بأنّه أصناف من الشّدائد هي لتعدّد أشكالها وأحوالها لا يعبّر عنها باسم مفرد. فيجوز أن يكون هذا وعيداً بعذاب يلقونه في الدّنيا في وقت النّزع. ولمّا كان للموت سكرات جعلت غمرةُ الموت غمَرات.

و (في) للظرفيّة المجازيّة للدّلالة على شدّة ملابسة الغمرات لهم حتّى كأنّها ظرف يحويهم ويحيط بهم. فالموت على هذا الوجه مستعمل في معناه الحقيقي وغمراتُه هي آلام النّزع.

وتكون جملة: {أخرجوا أنفسكم} حكاية قول الملائكة لهم عند قبض أرواحهم. فيكون إطلاقُ الغمرات مجازاً مفرداً ويكون الموت حقيقة. ومعنى بسط اليد تمثيلاً للشدّة في انتزاع أرواحهم ولا بسط ولا أيديَ. والأنفس بمعنى الأرْواح، أي أخرجوا أرْواحكم من أجسادكم، أي هاتوا أرواحكم، والأمر للإهانة والإرْهاق إغلاظاً في قبض أرواحهم ولا يتركون لهم راحة ولا يعاملونهم بلين، وفيه إشارة إلى أنّهم يجْزعون فلا يلفظون أرواحهم وهو على هذا الوجه وعيد بالآلام عند النّزع جزاءاً في الدّنيا على شركهم، وقد كان المشركون في شكّ من البعث فتُوعِّدُوا بما لا شكّ فيه، وهو حال قبض الأرواح بأنّ الله يسلّط عليهم ملائكة تقبض أرواحهم بشدّة وعنف وتذيقهم عذاباً في ذلك.

وذلك الوعيد يقع في نفوسهم موقعاً عظيماً لأنّهم كانوا يخافون شدائد النّزع وهو كقوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفّى الَّذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} [الأنفال: 50] الآية، وقول {أخرجوا أنفسكم} على هذا صادر من الملائكة.

ويجوز أن يكون هذا وعيداً بما يلاقيه المشركون من شدائد العذاب يوم القيامة لمناسبة قوله بعد {ولقد جئتمونا فُرادى} [الأنعام: 94]؛ فغمرات الموت تمثيل لحالهم يوم الحشر في منازعة الشّدائد وأهوال القيامة بحال منهم في غمرات الموت وشدائد النّزع فالموت تمثيل وليس بحقيقة. والمقصود من التّمثيل تقريب الحالة وإلاّ فإنّ أهوالهم يومئذٍ أشدّ من غمرات الموت ولكن لا يوجد في المتعارف ما هو أقصى من هذا التّمثيل دلالة على هول الألم. وهذا كما يقال: وجدت ألَم الموت، وقول أبي قتادة في وقعة حُنَين: « فَضمَّنِي ضَمَّة وَجَدْتُ منها ريحَ الموت»

.. وجملة: {والملائكةُ باسطوا أيديهم} حال، أي والملائكة مَادّونَ أيديهم إلى المشركين ليقبضوا عليهم ويدفعوهم إلى الحساب على الوجه الثّاني، أو ليقبضوا أرواحهم على الوجه الأوّل، فيكون بسط الأيدي حقيقة بأن تتشكّل الملائكة لهم في أشكال في صورة الآدميين. ويجوز أن يكون بسط الأيدي كناية عن المَسّ والإيلام، كقوله: {لئن بسطتَ إليّ يدَك لتقتلني} [المائدة: 28].

وجملة: {أخرجوا أنفسكم} مقول لقوللٍ محذوف. وحذف القول في مثله شائع، والقول على هذا من جانب الله تعالى. والتّقدير: نقول لهم: أخرجوا أنفسكم والأنفس بمعنى الذوات. والأمر للتعجيز، أي أخرجوا أنفسكم من هذا العذاب إن استطعتم، والإخراج مجاز في الإنقاذ والإنجاء لأنّ هذا الحال قبلَ دخولهم النّار. ويجوز إبْقاء الإخراج على حقيقته إن كان هذا الحال واقعاً في حين دخولهم النّار.

والتّعريف في {اليوم} للعهد وهو يوم القيامة الّذي فيه هذا القول، وإطلاق اليوم عليه مشهور، فإنْ حُمل الغمرات على النّزع عند الموت فاليوم مستعمل في الوقت، أي وقت قبض أرواحهم.

وجملة: {اليوم تجزون} إلخ استئنافُ وعيد، فُصلت للاستقلال والاهتمام، وهي من قول الملائكة. و {تُجْزَوْن} تعْطَوْن جزاء، والجزاء هو عِوض العمل وما يقابَل به من أجر أو عقوبة. قال تعالى: {جَزاء وفاقاً} [النبأ: 26]، وفي المثل: المرء مَجْزِيّ بما صَنَع إنْ خيراً فخير وإنْ شرّاً فشرّ. يقال: جزَاه يجزيه فهو جاز. وهو يتعدّى بنفسه إلى الشّيء المعطَى جزاء، ويتعدّى بالباء إلى الشّيء المكافَئ عنه، كما في هذه الآية.

ولذلك كانت الباء في قوله تعالى في سورة [يونس: 27] {والَّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها} مُتؤوّلاً على معنى الإضافة البيانيّة. أي جزاء هو سيّئة، وأنّ مجرور الباء هو السيّئة المجزى عنها، كما اختاره ابن جني. وقال الأخفش: الباء فيه زائدة لقوله تعالى: {وجزاء سيئة سيّئة مثلها} [الشورى: 40]. ويقال: جازى بصيغة المفاعلة. قال الرّاغب: ولم يجيء في القرآن: جَازى.

والهُون: الهَوَان، وهو الذّلّ. وفسّره الزّجاج بالهوان الشّديد، وتبعه صاحب « الكشاف»، ولم يقله غيرهما من علماء اللّغة. وكلام أهل اللّغة يقتضي أنّ الهُون مرادف الهوان، وقد قرأ ابن مسعود {اليوم تجزون عذاب الهَوَان}. وإضافة العذاب إلى الهون لإفادة ما تقتضيه الإضافة من معنى الاختصاص والمِلك، أي العذاب المتمكّن في الهُون المُلازم له.

والباء في قوله: {بما كنتم تقولون} باء العوض لتعديّة فعل {تُجزون} إلى المجزي عنه. ويجوز جَعل الباء للسببيّة، أي تجزون عذاب الهون بسبب قولكم، ويعلم أنّ الجزاء على ذلك، و (ما) مصدريّة. ثمّ إن كان هذا القول صادراً من جانب الله تعالى فذكر اسم الجلالة من الإظهار في مقام الإضمار لقصد التّهويل. والأصل بما كنتم تقولون عليّ.

وضُمّن {تقولون} معنى تَكْذِبون، فعُلّق به قوله: {على الله}، فعلم أنّ هذا القول كذب على الله كقوله تعالى: {ولو تَقوّل علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44] الآية، وبذلك يصحّ تنزيل فعل {تقولون} منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول لأنّ المراد به أنّهم يكذبون، ويصحّ جعل غير الحقّ مفعولاً ل {تقولون}، وغير الحقّ هو الباطل، ولا تكون نسبته إلى الله إلاّ كذباً.

وشمل {ما كنتم تقولون} الأقوالَ الثّلاثة المتقدّمة في قوله {ومن أظلم ممّن افترى على الله كذباً إلى قوله مثلَ ما أنزل الله} وغيرَها.

و {غير الحقّ} حال من (ما) الموصولة أو صفة لمفعول مطلق أو هو المفعول به ل {تقولون}.

وقوله: {وكنتم عن آياته} عطف على {كنتم تقولون}، أي وباستكباركم عن آياته. والاستكبار: الإعراض في قلّة اكتراث، فبهذا المعنى يتعدّى إلى الآيات، أو أريد من الآيات التأمّل فيها فيكون الاستكبار على حقيقته، أي تستكبرون عن التدبّر في الآيات وترون أنفسكم أعظم من صاحب تلك الآيات.

وجواب (لو) محذوف لقصد التّهويل. والمعنى: لرأيتَ أمراً مُفْظعاً. وحَذْفُ جواب (لو) في مثل هذا المقام شائع في القرآن. وتقدّم عند قوله تعالى: {ولو ترى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب} في سورة [البقرة: 165].

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

في الآيات السابقة مرّت الإِشارة إِلى مزاعم اليهود الذين أنكروا نزول أي كتاب سماوي على أحد، وفي هذه الآية يدور الكلام على أشخاص آخرين يقفون على الطرف المعاكس تماماً لأولئك، فيزعمون كذباً أن الوحي ينزل عليهم. وتتناول الآية ثلاث جماعات من هؤلاء بالبحث، ففي البداية تقول: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً). والجماعة الثّانية هم الذين يدعون النّبوة ونزول الوحي عليهم، فلا هم أنبياء، ولا نزل عليهم وحي: (أو قال أوحي إِليّ ولم يوح إليه شيء). والجماعة الثّالثة هم الذين أنكروا نبوة نبي الإِسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو زعموا ساخرين أنّهم يستطيعون أنّ يأتوا بمثل آيات القرآن، وهم في ذلك كاذبون ولا قدرة لهم على ذلك: (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله). نعم، هؤلاء كلّهم ظالمون، بل أظلم الظالمين، لأنّهم يغلقون طريق الحق بوجه عباد الله ويضلونهم في متاهات الضلال حائرين، ويحاربون قادة الحق، فهم ضالون مضلون، فمن أظلم ممن يدعي لنفسه القيادة الإِلهية وليست لديه صلاحية مثل هذا المقام. على الرغم من أنّ الآية تخصّ أدعياء النبوة والوحي، إِلاّ أنّ روحها تشمل كل من يدعي كذباً لنفسه مكانة ليس أهلا لها. ثمّ تبيّن العقاب الأليم الذي ينتظر أمثال هؤلاء فتقول: (ولو ترى إِذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم) أي لو أنك أيّها النّبي رأيت هؤلاء الظالمين وهم يمرون بشدائد الموت والنزع الأخير، وملائكة قبض الأرواح مادين أيديهم نحوهم ويقولون لهم: هيا أخرجوا أرواحكم، لأدركت العذاب الذي ينزل بهم. عندئذ تخبرهم ملائكة العذاب بأنّهم سينالون اليوم عذاباً مذلا لأمرين: الأوّل: إنّهم كذبوا على الله، والآخر، إنّهم لم ينصاعوا لآياته: (اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون).