الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ} (93)

قوله تعالى : " ومن أظلم " ابتداء وخبر ، أي لا أحد أظلم . " ممن افترى على الله كذبا " أي اختلق . " أو قال أوحي إلي " فزعم أنه نبي " ولم يوح إليه شيء " نزلت في رحمان اليمامة والأسود العبسي وسجاح زوج مسيلمة ، كلهم تنبأ وزعم أن الله قد أوحى إليه . قال قتادة : بلغنا أن الله أنزل هذا في مسيلمة ، وقال ابن عباس . قلت : ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن يقول : وقع في خاطري كذا ، أو أخبرني قلبي بكذا ، فيحكمون بما يقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطرهم ، ويزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار وخلوها من الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكليات ويعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، ويقولون : هذه الأحكام الشرعية العامة ، إنما يحكم بها على الأغبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص ، فلا يحتاجون لتلك النصوص . وقد جاء فيما ينقلون : استفت قلبك وإن أفتاك المفتون{[6563]} ؛ ويستدلون على هذا بالخضر ، وأنه استغنى بما تجلى له من تلك العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم . وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب ، فإنه يلزم منه هد الأحكام وإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم . وسيأتي لهذا المعنى في " الكهف{[6564]} " مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

قوله تعالى : " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " " من " في موضع خفض ، أي ومن أظلم ممن قال سأنزل ، والمراد عبدالله بن أبي سرح الذي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتد ولحق بالمشركين . وسبب ذلك فيما ذكر المفسرون أنه لما نزلت الآية التي في " المؤمنون " : " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين{[6565]} " [ المؤمنون :12 ] دعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأملاها عليه ، فلما انتهى إلى قوله " ثم أنشأناه خلقا آخر " [ المؤمنون : 14 ] عجب عبدالله في تفصيل خلق الإنسان فقال : " تبارك الله أحسن الخالقين " [ المؤمنون : 14 ] . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهكذا أنزلت على ) فشك عبدالله حينئذ وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ، فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين ، فذلك قوله : " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " رواه الكلبي عن ابن عباس . وذكره محمد بن إسحاق قال حدثني شرحبيل قال : نزلت في عبدالله بن سعد بن أبي سرح " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " ارتد عن الإسلام ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر بقتله وقتل عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة ولو وجدوا تحت أستار الكعبة ، ففر عبدالله بن أبي سرح إلى عثمان رضي الله عنه ، وكان أخاه من الرضاعة ، أرضعت أمه عثمان ، فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له ، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا ثم قال : ( نعم ) . فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه ) . فقال رجل من الأنصار : فهلا أومأت إلى يا رسول الله ؟ فقال : ( إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين ){[6566]} . قال أبو عمر : وأسلم عبدالله بن سعد بن أبي سرح أيام الفتح فحسن إسلامه ، ولم يظهر منه ما ينكر عليه بعد ذلك . وهو أحد النجباء العقلاء الكرماء من قريش ، وفارس بني عامر بن لؤي المعدود فيهم ، ثم ولاه عثمان بعد ذلك مصر سنة خمس وعشرين . وفتح على يديه إفريقية سنة سبع وعشرين ، وغزا منها الأساود من أرض النوبة سنة إحدى وثلاثين ، وهو هادنهم الهدنة الباقية إلى اليوم . وغزا الصواري{[6567]} من أرض الروم سنة أربع وثلاثين ، فلما رجع من وفاداته منعه ابن أبي حذيفة من دخول الفسطاط ، فمضى إلى عسقلان ، فأقام فيها حتى قتل عثمان رضي الله عنه . وقيل : بل أقام بالرملة حتى مات فارا من الفتنة . ودعا ربه فقال : اللهم اجعل خاتمة عملي صلاة الصبح ، فتوضأ ثم صلى فقرأ في الركعة الأولى بأم القرآن والعاديات{[6568]} ، وفي الثانية بأم القرآن وسورة ، ثم سلم عن يمينه ، ثم ذهب يسلم عن يساره فقبض الله روحه . ذكر ذلك كله يزيد بن أبي حبيب وغيره . ولم يبايع لعلي ولا لمعاوية رضي الله عنهما{[6569]} . وكانت وفاته قبل اجتماع الناس على معاوية . وقيل : إنه توفي بإفريقية . والصحيح أنه توفي بعسقلان سنة ست أو سبع وثلاثين . وقيل : سنة ست وثلاثين . وروى حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث ؛ لأنه عارض القرآن فقال : والطاحنات طحنا . والعاجنات عجنا . فالخابزات خبزا . فاللاقمات لقما .

قوله تعالى : " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت " أي شدائده وسكراته . والغمرة الشدة ، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها . ومنه غمره{[6570]} الماء . ثم وضعت في معنى الشدائد والمكاره . ومنه غمرات الحرب . قال الجوهري : والغمرة الشدة ، والجمع غمر مثل نوبة ونوب . قال القطامي يصف سفينة نوح عليه السلام :

وحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انحِسَارُ

وغمرات الموت شدائده . " والملائكة باسطو أيديهم " ابتداء وخبر . والأصل باسطون . قيل : بالعذاب ومطارق الحديد ؛ عن الحسن والضحاك . وقيل : لقبض أرواحهم ، وفي التنزيل : " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم{[6571]} " [ الأنفال : 50 ] فجمعت هذه الآية القولين . يقال : بسط إليه يده بالمكروه . " أخرجوا أنفسكم " أي خلصوها من العذاب إن أمكنكم ، وهو توبيخ . وقيل : أخرجوها كرها ؛ لأن روح المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه ، وروح الكافر تنتزع انتزاعا شديدا ، ويقال : أيتها النفس الخبيثة أخرجي ساخطة مسخوطا عليك إلى عذاب الله وهوانه كذا جاء في حديث أبي هريرة وغيره . وقد أتينا عليه في كتاب " التذكرة " والحمد لله . وقيل : هو بمنزلة قول القائل لمن يعذبه : لأذيقنك العذاب ولأخر جن نفسك ؛ وذلك لأنهم لا يخرجون أنفسهم بل يقبضها ملك الموت وأعوانه . وقيل : يقال هذا للكفار وهم في النار . والجواب محذوف لعظم الأمر ، أي ولو رأيت الظالمين في هذه الحال لرأيت عذابا عظيما . والهون والهوان سواء . " تستكبرون " أي تتعظمون وتأنفون عن قبول آياته .


[6563]:في كشف الخفاء "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" قال: رواه أحمد والطبراني وأبو يعلى وأبو نعيم عن وابصة مرفوعا.
[6564]:راجع ج 10 ص 18 فما بعد.
[6565]:راجع ج 12 ص 108.
[6566]:أي يضمر في نفسه غير ما يظهره، فإذا كف لسانه وأومأ بعينه فقد خان.
[6567]:قال ابن الأثير في (الكامل): "... وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله منذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة وخرج المسلمون..."الخ. وإنما سميت غزوة الصواري لكثرة صواري المراكب واجتماعها. راجع ج 3 ص 90 طبع أوربا. والطبري قسم أول ص 2865 طبع أوربا.
[6568]:في ك: والصافات.
[6569]:من ك و ز.
[6570]:في ك: غمرة.
[6571]:راجع ج 8 ص 28.