محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمۡ يُوحَ إِلَيۡهِ شَيۡءٞ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثۡلَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۗ وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ فِي غَمَرَٰتِ ٱلۡمَوۡتِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ بَاسِطُوٓاْ أَيۡدِيهِمۡ أَخۡرِجُوٓاْ أَنفُسَكُمُۖ ٱلۡيَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ وَكُنتُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهِۦ تَسۡتَكۡبِرُونَ} (93)

[ 93 ] { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ( 93 ) } .

{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي : اختلق إفكا ، فجعل له شركاء أو ولدا ، أو أحكاما في الحل والحرمة ، كعمرو بن لحي وأشباهه ، ممن جعل قوله قول الله . { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } ممن ادعى النبوة كذبا . وهذا يزيد على الافتراء في دعوى النبوة .

قال البقاعي : هذا تهديد على سبيل الإجمال . كعادة القرآن الجميل ، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك ، كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما . ثم قال : رأيت في كتاب ( غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود ) لابن يحيى المغربي الذي كان من علمائهم في حدود/ سنة 560 ثم هداه الله للإسلام فبين فضائحهم : إن الربانيين منهم زعموا أن الله يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات . ثم قال : إن الربانيين أكثرهم عددا ، يزعمون أن الله يخاطبهم في كل مسألة بالصواب . وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم في الأمم . انتهى .

{ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } أي : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كالنضر بن الحارث . وهذا كقوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا }{[3576]} الآية .

قال المهايمي : أي ومن أنكر إعجاز القرآن حتى قال : سأنزل مثل ما أنزل الله ، مع أنه قد عرف إعجازه ، فكأنه ادعى لنفسه قدرة الله ، فكأنه أدعى الإلهية لنفسه . ولا يجترئ على هذه الوجوه من الظلم من يؤمن بالآخرة ، فيعلم ما للظالمين فيها ، المبين بقوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } . أي شدائده وسكراته وكرباته ، { والملائكة باسطوا أيديهم } أي : بالضرب والعذاب ، كقوله تعالى : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم }{[3577]} .

{ أخرجوا أنفسكم } أي : قائلين لهم : أخرجوا إلينا أرواحكم من أجسادكم ، تغليظا وتوبيخا وتعنيفا عليهم . وقد جنح بعضهم إلى أن ما ذكر من مجاز التمثيل . أي : فشبه فعل الملائكة في قبض أرواحهم ، بفعل الغريم الذي يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف في استيفاء حقه من غير إمهال . وفي ( الكشف ) أنه كناية عن ذلك ، ولا بسط ولا قول حقيقة . قال الناصر في ( الانتصاف ) : ولا حاجة إلى ذلك . والظاهر أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة ، على الصور المحكية . وإذا أمكن البقاء على الحقيقة ، فلا معدل عنها . انتهى .

/ وقال الحافظ ابن كثير : إن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصي ، وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : أخرجوا أنفسكم . انتهى .

أقول : مما يؤيد الحقيقية آية { ولو ترى إذ يتوفى } المتقدمة ، فإنها صريحة ، ومراعاة النظائر القرآنية أعظم ما يفيد في باب التأويل .

قال السيوطي في ( الإكليل ) : في هذه الآية حال الكافر عند القبض ، وعذاب القبر . واستدل بها محمد بن قيس على أن لملك الموت أعوانا من الملائكة – أخرجه ابن أبي حاتم- .

{ اليوم } أي : وقت الإماتة ، أو الوقت الممتد من الإماتة إلى ما لا نهاية له . { تجزون عذاب الهون } أي : الهوان الشديد ، { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } كالتحريف ودعوى النبوة الكاذبة . وهو جراءة على الله متضمنة للاستهانة به- قاله المهايمي- . { وكنتم عن آياته تستكبرون } حتى قال بعضكم : سأنزل مثل ما أنزل الله .


[3576]:- [8/ الأنفال/ 31] {... مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31)}.
[3577]:- [8/ الأنفال/ 50] {... وذوقوا عذاب الحريق (50)}.